مراكز الدراسات الإستراتيجية الخاصة لدينا-وهي قليلة بحمد الله-، عناوين لمتخيل, أو مجرد لا وجود حقيقي له على أرض الواقع، لا يكلف استخراج تصريحها إلا المراحل التي يمر بها أي نشاط تجاري آخر سواء كان بقالة أو محل بنشر،
على اختلاف المرجعية الإدارية التي تمنح التصريح, والإجراءات التي تقتضيها كل تلك المناشط.
والبقالة والبنشر أكثر صدقاً وواقعية، ومطابقة العنوان/ الكلام لمقتضى الحال, كما يقول البلاغيون.
أما مراكز الدراسات الإستراتيجية فإكسسوار دعائي وإدعائي يرتفع بالشخصية القائمة عليها إلى مستوى اهتمام تسعى إليه، فيقدِّم الشخص على أنه رئيس أو عضو مركز الدراسات الإستراتيجية، وليس لك أن تسأل عن الدراسات التي قدمها هذا المركز، أو المشروع العلمي الذي عُني به، والدراسات التي أفاد منها الباحثون والقراء والمجتمع من هذا المركز أو ذاك.
وهذا الخداع السمعي أو البصري ينطوي على مأزق قيمي أكبر، فما يتفوه به هذا الرئيس أو الخبير الاستراتيجي يفترض أنه يعكس رؤية صاغتها خبرة علمية, وأعمال بحث, وممارسة معرفية أصيلة في مجال الاستراتيجيات وتطبيقاتها. ولكن ذلك ليس كذلك.
فالعنوان دعوى بلا دليل، ولأنه لا رقيب عليها، ولا مشاحة في الادعاء، فالعنوان يسند -غالباً- أناساً من خلق الله، يعيدون تدوير ملفوظات المجالس العامة التي يحترف بعضها صناعة إضاعة الوقت, ويجيد فنونه.
وينطلق هؤلاء غالباً من مواقف انطباعية عامة، حداً يدفع بالمستمع إلى الشك في أن هذا الاستراتيجي قد قرأ كتاباً في حياته، فضلاً عن إدراكه لأبجديات الموضوع الذي يتحدث فيه، وهذا أحد مظاهر حالة ثقافية عامة لا تلقي بالاً للتخصص، ولا تحترم عقلية المتلقي. يصنع منها الإعلام وهاً يملأ به ساعات البث، أو يغرر بها للوقوع في شرك تسجيل موقف يحسب على الاتجاه العام.
هذه الحالة الثقافية العامة التي تختلط فيها المفاهيم، وتتدنى مسئولية الشخص والاعتبار،وتميَّع المواقف، ويسهل أمامها طريق التواصل والوصول، والتأثير في الطبقة الشعبية، وتتحد أسباب أخرى لتخلق منها سلطة تغيِّب أي جهد أو صوت أصيل. ومن ثم فمراكز الدراسات الإستراتيجية ليست معنية بأكثر من تلميع سعادة الرئيس وتقديمه قيِّماً على الهرم الهلامي, وعنواناً مفرغاً من المحتوى، وتتخذ حيزاً على المنابر الفضائية لا يحتمل أكثر من اسم الرئيس، الذي يشرِّق ويغرِّب في كل سانحة أزموية أو حدثية يعرضها لها معلقاً أو محللاً بفهم ضيق؛ ليغطي التعريف الوظيفي (رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية) مايظهر جلياً من افتقار للرؤية, وتواضع في التصور والفهم، وسوء وتدنٍ في التعبير. ولاأهمية للقيمة ولاسؤال عنها، فهذا وأشباهه هم من يتصدرون مشهد الحالة الثقافية العامة.
md1413@hotmail.comالمدينة المنورة