|
استغرق الطريق الذي يفصل مدينة بريدة عن مركز عقلة الصقور غرب القصيم أكثر من ساعتين ونحن متجهون صوب قلب الصحراء في يوم شتوي، استجابة لدعوة كريمة من معالي مدير جامعة القصيم الأخ الدكتور خالد الحمودي. نعرف عن غرب القصيم جبالها الشامخة، ونعرف عنها بيئتها الصحراوية البكر، ونعرف أيضاً تاريخها الممتد إلى معلقات زهير وامرئ القيس. لكن ما لم نكن نعلم عنه قبل ذلك اليوم هو أن حركة تنموية ملفتة تعتمد على الإنسان، تتكون هناك بشكل ملفت للانتباه لكنها بعيدة عن الأضواء، حركة لحظنا أول علاماتها عند وصولنا لمقر مخيم الجامعة وسط جبال قطن الشهيرة حيث الخيمة الكبيرة التي جمعت بين رواد العمل الأكاديمي في المنطقة مع أهالي عقلة الصقور وقطن وغيرهما من البلدات. أول المفاجآت السارة هي عندما أبلغنا معالي مدير الجامعة أن كلية العلوم الناشئة التي أُسست في عقلة الصقور منذ أكثر 3 سنوات تستوعب 2700 طالب وطالبة ومتدرب، وأن الكلية أثرت كثيراً في المجتمع المحلي، كما وصف ذلك وكيل الجامعة، علمياً واجتماعياً واقتصادياً وتنموياً، ولعله أو لعلي أضيف سياحياً.
هذه المقدمة الموجزة رأيتها ضرورية لأتحدث عن دور أظنه كان غائباً عن مؤسسات التعليم العالي قبل سنوات، وهو الوصول إلى الناس في مواقعهم وقيادة التنمية في أراض ناشئة تقبل غيث العلم وتنبت زرعاً يؤتي حصاداً خيره للوطن كله.
لا زلت أذكر وهي سنوات ليست بعيدة، كيف كان دخول حرم جامعة مثل جامعة الملك سعود أمراً صعب المنال على كثير من خريجي الثانوية وخريجاتها، وقد كنا نتنافس بشدة لنحظى بمقعد في إحدى كليات تلك الجامعة العتيدة في منتصف الثمانينات الميلادية، وكنا نفكر وقتها ونحدث أنفسنا: هل يمكن أن تأتي الجامعة لنا بدلاً من أن نذهب إليها؟ لكن فرحة القبول في الجامعة ومشاهدة حرمها المهيب أنستنا أسئلة كثيرة ووضعتنا وقتها أمام تحد أكبر نجحنا فيه والحمد لله.
تغير الوضع كثيراً الآن وأصبحت الجامعات تمد يدها للناس خصوصاً في مواقع كانت تعرف أنها نائية، وتجربة جامعة القصيم في عقلة الصقور وحضورها القوي في متنزه قطن الجميل تؤكد أن التعليم العالي شريك أساس في عملية التنمية، ليس فقط في تأهيل كوادر متعلمة مدربة، بل في قيادة كثير من التغيير التنموي ونقل المجتمعات من مجتمعات متلقية مستهلكة إلى مجتمعات مبادرة ومنتجة.
هذا التوجه الهام يدعمه التطور الكبير الذي أصبح واقعاً في عالم التقنية، حيث أتاحت لنا تقنية الاتصال أن يكون البعيد صوتاً وصورة قريباً مما يعزز من فرص بناء حرم جامعي كبير تعطى الفرص فيه بعدالة للجميع وتصل له قاعات المحاضرات لراغبها.
كثير هو ما أسعدنا في تجربة الجامعة والصحراء التي كنا شهوداً عليها، لكن أجمل ما شاهدناه هو الاحتفاء الكبير الذي رأيناه من كبار السن بإخوانهم وأبنائهم منسوبي الجامعة الثرية سيرتهم بشهادات الدكتوراه من أعرق جامعات العالم، ولسان حالهم يقول إنكم تأخرتم علينا لكنكم وصلتم في وقت مناسب.
عبرت سياراتنا أراضي قطن مودعة له ونحن نرى وراءنا خطى أمرئ القيس منشداً:
أصاحِ ترى برقاً أُريك وميضَه
كلمع اليدَين في حَبي مُكلّل
على قطن بالشيْم أيمَنُ صوبه
وأيسَرُه على الستار فيذْبُل
ولكننا أيضاً نرى أمامنا جيلاً يتم تكوينه اغبرت يداه من مسك الصحراء وامتلأت يداه بأقلام تكتب العلم وتوثق المعرفة. سيأتي يوم -إن شاء الله- ونحن نراهم في مختبرات وقاعات جامعات العالم العريقة يكملون ما بدأه من سبقهم من أبناء بلد كريم.
هذه خواطر عابرة أحببت أن أشرككم فيها ليس لأنها تتحدث عن تجربة شخصية بل لأنها تتحدث عن تحول إيجابي في ميزان التنمية يحقق مبدأ المعرفة للجميع ويؤكد أن الميدان يمكن أن يدخله أكثر من حميدان.
د. جاسر بن سليمان الحربش - المدير التنفيذي للهيئة العامة للسياحة والآثار بمنطقة القصيم