نواصل الحديث عن شبابنا وقيمة العمل المنتج، والذي ذكرنا فيه أن في العمل يجد الشاب ذاته وإشعاره بقيمته، وأن الإسلام جعل من العمل جهاداً، وأن الأمة العاملة هي التي تثبت وجودها واستقلالها، لأن دول الغرب الاستعمارية وهي ليست استعمارية وإنما دول تدميرية التي احتلت أجزاء من العالم العربي والإسلامي وأحدثت فيه الخراب وعملت على وأد القدرات الإنتاجية للشعوب التي استعمرتها.
كذلك الدور الاجتماعي الذي لم يضع العمل على قمة السلم للقيم الاجتماعية عند الشباب السعودي، لأن الشباب يكتسب قيمه الاجتماعية الموجهة لسلوكه ومن بينها قيمة العمل منذ الطفولة من خلال الأسرة، وهذا ما تطرقنا إليه في المقال السابق. وفي هذا المقال نأتي إلى المدرسة ونسأل كم مرة ترد قيمة العمل المنتج وتقدير العامل واحترامه ضمن مضمون المقررات الدراسية طوال سني الدراسة؟ وكم أيضاً من النصوص من القراءات مثلاً تدور حول العمل والإنتاج؟ وكم مسألة حسابية مما يعطى للطالب يطلب فيها حساب الإنتاج وليس حساب الكسب والخسارة فقط؟ والأنشطة المدرسية هي تشمل برامج الزيارات إلى المصانع ومواقع العمل، وهل نشجع الطلاب على العمل الخلاق والمبدع؟
إن البرامج الدراسية في البلدان المتقدمة تربط الطلاب منذ مراحل الدراسة الأولى بالنشاط الإنتاجي في المجتمع، بل وتخصص بعضها ساعات للتدريب العملي في المؤسسات الإنتاجية، علاوة على إشراك الطلاب في أنشطة إنتاجية داخل المدرسة ذاتها، فيشجع الأطفال والشباب على إنتاج المعرفة لأن إنتاج المعرفة يتم من خلال اكتسابها بنشاط إيجابي، وليس على استهلاك المعرفة التي يلقنها لهم المدرسون كما يحدث في مدارسنا اليوم. هذا بالنسبة للمدرسة، وعند النظر إلى برامج التلفاز والمذياع فمعظم البرامج وبخاصة المسلسلات والأفلام التلفازية التي تعرض من قبل الإعلام المرئي، فإن هذه الموضوعات التي تتعلق بالإنتاج والعمل الخلاق والمثمر فإنها تحصر نفسها داخل القصة الأبدية، الحب بين رجل وامرأة، فإذا تجاوزتها دارت حول الجريمة أو الثأر والمشاحنات الأسرية، كما لو كانت الحياة قد خلت تماماً من غير ذلك. أما الأفلام السينمائية فنادراً ما تظهر العامل المنتج كشخص يحظى بالتقدير في المجتمع ناهيك عن الغزو الثقافي الأجنبي بأفلامه ومسلسلاته التي تشغل اهتمام المتفرج بموضوعات لا صلة لها بواقعه، وتبث قيماً تطلعية واستهلاكية علاوة على القيم الفاسدة التي لا تتفق والتقاليد الأصلية الإسلامية.
إن دراسة سريعة لأبطال الأفلام السينمائية التي تعرض في دور العرض أو على الشاشة الصغيرة تبين لنا أن خصائص هؤلاء الأبطال الذين يتقمصهم المتفرج عادة أبعد ما تكون انتقائياً في العمل والإنتاج والعطاء من أجل المجتمعـ. وإذا انتقلنا إلى الصحافة، فلو قمنا بتحليل مضمون الصحف والمجلات لأتضح لنا أنها نادراً جداً ما تتضمن تحقيقات عن مواقع العمل والإنتاج، وتظهر إنجازات العاملين في القطاعات وتقدم نماذج للعاملين المثاليين، ولكنها بدلاً من ذلك تفضي بأنباء وصور الممثلين والممثلات ولاعبي الكرة والحفلات. فلا نستغرب بعد ذلك أن يعزف الشباب عن العمل المنتج. إن أزمة بلادنا وبلاد العالم العربي والإسلامي أيضاً تتمثل في محاولة اللحاق بالبلدان المتقدمة، ولكن تضيق الفجوة التي تزداد اتساعاً بيننا وبينهم، ولا سبيل لذلك إلا بالتنمية في المجالات كافة، والتنمية لكي تتحقق تتطلب الجهد والعمل الدوؤب والمثابرة وبخاصة من جانب الشباب، ولكي يحدث ذلك لا بد من نشر قيم العمل المنتج بالأساليب كافة بين الشباب وبثها في نفوس النشء من خلال كل مؤسسات المجتمع، وذلك بأن نقدم للشباب في جميع مراحل نموه نماذج مقنعة بأن العطاء للمجتمع من خلال العمل المنتج الذي يحقق للإنسان ذاته ويهيئ له السعادة، وينمي قدراته وملكاته ومهاراته، ويجعله موضع احترام وتقدير الآخرين ويرضي طموحاته. ولا بد من أن تتاح للشباب دائماً فرص العمل الذي يتناسب مع قدراتهم وميولهم، بحيث يكون العمل هدفاً ممتعاً في حد ذاته لا مجرد وسيلة لكسب العيش. ولا بد أن تعي كل مؤسسات المجتمع حقيقة أهمية بث قيم العمل المنتج بأنواعه كافة ليس مفيداً لتنمية المجتمع ككل وحسب، ولكنه ضروري لتنمية قدرات الإنسان الفرد الجسمية والعقلية والروحية، وليست هناك متعة تعادل إنجاز الأعمال المفيدة، ومن خلال العمل يكسب الإنسان مهارات وخبرات جديدة ويواجه بتحديات ومشكلات يبتكر لها حلولاً، ويقيم علاقات إنسانية وتعاونية مع شركائه في العمل تشعره بالانتماء والمحبة، بل إن العمل يحمى الإنسان من الكثير من الأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية. ومن أنجح الوسائل التي تستخدم الآن في علاج هذه الأمراض وسيلة العلاج بالعمل، ولا بد أن ترتبط برامج التعليم في جميع مراحله بالعمل والإنتاج، ولا بد من القضاء على هذا الانفصام بين التعليم واحتياجات المجتمع من الكفاءات الحرفية والمهنية، عن طريق التوسع في التعليم الفني وتقدير خريجيه مادياً ومعنوياً. وأن تشجيع الشباب على تبني قيم العمل المنتج وعلى البذل والعطاء لا يمكن أن يتم عن طريق الوعظ والإرشاد، ولكن عن طريق رسم السياسات ووضع الخطط الاقتصادية والتربوية والإعلامية، وعن طريق تقديم القدوة والنماذج السلوكية التي تعلي من شأن العمل وتقدره بل وتحترمه لأنه هو حياة الأفراد منذ القدم.
ولكن القيمة التي أعطيت للعمل تغيرت من عصر إلى عصر ومن زمن لآخر. واختلفت هذه القيمة باختلاف نوع العمل. ففي وقت من الأوقات مثلاً أعطيت قيمة كبيرة للعمل العقلي وانخفضت النظرة للعمل اليدوي، وظهرت بعض أعمال ترتبط بوظائف تتميز بمركز أدبي ممتاز، ولكن هذا المركز الأدبي تغير أيضاً بتغير العصر والزمان. ولقد قدر الإسلام العمل بل كل الأديان السماوية لذلك نجد أن أنبياء الله، محمد وموسى وعيسى عليهم السلام من الممارسين للأعمال السائدة في مجتمعات عصرهم مثل التجارة والرعي وهي أقرب إلى الأعمال الصناعية والزراعية في عصرنا الحاضر. وقد جاء القرآن الكريم حافلاً بتقدير قيمة العمل حتى أن الإيمان بلا عمل ما هو إلا إيمان أجوف لا يقوم على جهد أو على سعي، وهذا القول نوضحه في الآيات الكريمة التالية:
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} (14) سورة الحج، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} (7) سورة العنكبوت، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} (45) سورة الروم.
فالعمل الصالح يشمل كفاح الإنسان الصادق المخلص في دنياه وما يعمله ذخراً لآخرته، ولا ننسى القول المأثور (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
فالعمل والكفاح المخلص في سبيل لقمة العيش عدَّه الإسلام عبادة لا تعلوها عبادة، لكن هل أن كسب العيش هو الدافع الرئيس للعمل؟ في هذه الحالة يختلف الأفراد، فبعضهم يرى أن الدافع الرئيس للعمل هو كسب العيش والحاجة لكسب العيش والحصول على المال من أجل الحصول على قوته وقوت أولاده من أجل أن يحيا، ولذلك يكون العمل هو مصدر الدخل الوحيد لذا تتضاءل جميع الدوافع الأخرى للعمل ويظهر ويبرز كسب العيش كدافع أساسي للعمل بالنسبة لبعض الأفراد. وعندما نناقش الأفراد الذين يعملون بالرغم أنهم لا يحتاجون للدخل أولئك الذين يضمنون عن طريق غير العمل إشباع حاجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن في هذه الحالة كيف تفسر اتجاه هؤلاء إلى العمل رغم عدم حاجتهم إليه من الناحية المادية؟ فهنا يأتي الجواب أن الدافع الاقتصادي غير كاف لتفسير سلوك هؤلاء الأفراد نحو اتجاههم للعمل، وأن هناك دوافع أخرى هي عدم الخلود للراحة والاتجاه للهو، لذا نجد أن دافعهم للعمل بالرغم عدم حاجتهم للدخل الذي يأتي عن طريق العمل هو الوصول إلى عدد من الدوافع الاجتماعية والنفسية التي تشبع عن طريق العمل، وهي التي تدفع الإنسان إلى العمل حتى يحقق الإشباع المناسب لهذه الدوافع. فهل تشعر أيها الشاب عن أهمية قيمة العمل الذي سوف تجد به ذاتك وتحقق متعتك وتشعر بقيمتك وتدعم علاقاتك بالآخرين، وبالتالي تشعر بالفخر والانتماء للجماعة وتتباهي بما تعمل وتنتج بدلاً من اتتباهي بما تستهلك وتستحوذ.
*كلية التربية - جامعة المجمعة
twhad_alfozan@yahoo.com