لا أدري لماذا قادني الحبر في هذا المقال لأكتب عن الروائي الجميل الطيب صالح -رحمه الله-، أهو لقائي بالأستاذ العزيز عبدالله الناصر الذي كانت تربطه به علاقة صداقة قوية في مدينة الضباب بلندن، وقد كان الأديبان ضيفين على برنامجي ستون دقيقة في القناة الأولى قبل أربعة أعوام أو تزيد، أو ربما لسبب آخر استحضرته قراءتي الثانية لرائعته موسم الهجرة إلى الشمال.
فقد تعلمت من أساتذتي لاحقاً كيف أقرأ ما أصاحب من كتب، فبدأت ألتهم هذا الكتاب كوجبة شهية، أعدّ لرفقته وأهيئ لي متكأ وأوراقاً ملونة وأقلاماً ودفاتر أكتب عليها أجمل ما أقرأ من عبارات.
في هذه الرواية التي أقرأها للمرة الثانية لم تضللني اللغة المعقدة ولم أدخل شعاباً ضللت فيها، بل تتبعت بساطة رجل قادم من مدن الغربة ليعود لحضن الطبيعة التي التصقت بمخيلته تفاصيلها الحميمة ولم تغب في زحام المدن التي غيرت ملامحها.
حين نقرأ الطيب صالح نجد فرقاً شاسعاً ما بين نمطه وبين ما نقرأ اليوم من روايات تعدت حواجز كثيرة من المسكوت عنه لكنها لم ترو ظمأنا للكلمة العذبة والحكاية المشوقة.. فمثلاً لو تتبعنا بعض عباراته:
( دفء الحياة في العشيرة).. (أرخيت أذني للريح.. صوت الريح وهي تمر بالنخل غيره وهي تمر بحقول القمح)
(تمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء»
« نحن.. هنا يقصد في القرية لا حاجة لنا بالشعر، لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب، لكان خيرا»
الطيب صالح في روايته يأتي بتعابير جميلة تأخذك معها إلى الحقول التي عاد إليها، إلى دفء الكلمة، إلى مكونات الحياة البكر، لندرك عظمة الكلمة كيف تتحول زورقا يأخذنا إلى الضفاف الأخرى، وقافلة من الحبر تصحبنا لقرى نائية خارجة من أسمال الذاكرة ضائعة على خارطة إسمنتية.
في رائعة الطيب أنت تهاجر لمواسم الكتابة تستنشق عبق حرف افتقدته في ليشعرك بدفء العشيرة، ونسيم الحقول وزئير الريح.
من آخر البحر
يا ربَهُ
هبني شراعا أسبقُ فيه ظنوني.. وشكي..
فيأخذني البحرُ الذي كنت يوما هجرتُ إليه..
يا ربِّ إني سألتك إلا يكون لأخرى
وألا أكونَ إلا إليه..
mysoonabubaker@yahoo.com