يرفع الله من عباده، من يشاء إذا علم منه الصدق - وهو العالم المغيب سبحانه- فتبين كراماته عليهم وهم أحياء، ليؤخذ من هذا عِبرة وقدوة، وأُسيدُ بن حُضَير أو ابن الحضير...
...واحدٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين إلى الإسلام، الذين مدحهم الله جل وعلا في كتابه، في مواطن كثيرة، منها ما جاء في سورة الواقعة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} الآيات (10-13)، وهي سنة الله الخالدة أن يتمايز الناس بأعمالهم وإخلاصهم، فيرفع بعضا على بعض في الدرجات، ويمايز بينهم في منازل يوم القيامة، بمقدار صدقهم ونواياهم المخلصة مع خالقهم في المعتقد والعمل سبحانه.
وأُسيد بن حضير - بالتعريف والتنكير - بن سِماك بن عتيك الأوسي، واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأنصار، قال عنه الزركلي في الأعلام: كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، مقدماً في قبيلته الأوس، من أهل المدينة، يُعد من عقلاء العرب، وذوي الرأي فيهم، وكان يُسمى الكامل - والكامل عند العرب الجاهليين، من اتصف بثلاث خصال: معرفة الكتابة، وإجادة العوم يعني السباحة، وإجادة الرمي. أما الكمال في الإسلام فيختلف.
شهد مع الانصار، في سابقتهم للإسلام: العقبة الثانية مع السبعين، كما كان أحد النقباء الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإثنى عشر، وشهد غزوة أحد مع رسول الله، فجرح سبع جراحات، وثبت مع رسول الله حين انكشف الناس، كما شهد غزوة الخندق والمشاهد كلها، وكانت وفاته بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام 20هـ، وقد جاءت أخباره (في مصادر عديدة، «الأعلام 33001)، مع أنه لم يثبت منها غير طبقات ابن سعد، والتهذيب والصفوة. ولم يعرف تاريخ ولادته، ولذا لم يُعرف مقدار عمره بالتحديد.
أما الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، فقد استقى ترجمته من 22 مرجعاً لكنهما لم يذكرا أهم المصادر ومنها السيرة النبوية لابن هشام، وأسد الغابة لابن الأثير في معرفة الصحابة، ولا كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل، ولا كتاب معجم الصحابة للبغوي.. وفضائله رضي الله عنه كثيرة تبين من تتبع سيرته.
قال عنه الذهبي: واحد من النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، أسلم قديما، وقال: ما شهد بدراً، وكان أبوه شريفاً مطاعا، يُدعى حُضير الكتائب، وكان رئيس الأوس يوم بُغاث فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بست سنين.
وكان أُسيد يُعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي، وعلق على بُغاث: بأنه موضع في نواحي المدينة كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر يؤمئذ فيه للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير والد الصحابي الجليل: أوسيد، وكان على الخزرج عمر بن النعمان البياضي، فقتلا جميعاً، فقال: خفاف ابن ندبة، يرثي حُضير الكتائب:
فلو كان حي ناجياً من حِمامِهِ
لكان حُضيرٌ يوم أُغْلِق وارقما
أطافَ به حتى إذا الليل جنّه
تبوأ منه منزلاً متناغما
(سيو أعلام النبلاء: 1: 34)
وقال محمد بن سعود في طبقاته: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أُسيد بن حَضير وبين زيد بن حارثة، وله رواية أحاديث روت عنه عائشة، وكعب بن مالك، وعبدالرحمن بن أبي ليلى، ولم يلحقه.
وذكر الواقدي: أنه قدم الجابيه مع عمر، وكان مقدما على ربع الأنصار، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير، وهو وسعد بن معاذ رضي الله عنهما.
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نِعم الرجل أبوبكر، نِعم الرجل عمر، نِعم الرجل أُسيد بن حُضير» أخرجه الترمذي واسناده جيد، وروي أن أسيداً كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن.
وكان أسيد رضي الله فيه مزاح، وكان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، وبيد رسول الله عود، فطعنه به فقال أُسيد أصبرني؟ فقال الرسول: اصْطَبر فقال أُسيد: إن عليك قميصاً، وليس عليّ قميص، قال: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فجعل أُسيدٌ يقبل كشح رسول الله، ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله، أخرجه أبو داود.
قال ابن الأثير: كان أُسيد يُكنى أبا يحيى بابنه يحيى، وقيل: أبا عيسى كناه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كنيته أبو عتيك، وقيل، أبو حُضير، وقيل: أبو عمرو، وروى عنه: كعب بن مالك وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك وعائشة رضي الله عنها، وقد شهد مع عمر بن الخطاب فتح بيت المقدس.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُكرمه، ولا يقدم عليه واحداً ويقول: إنه لا خلاف عنده (أسد الغابة 1: 112).
ومن فضائله ومكانته، ما أخرجه الترمذي بإسناد جيد في المناقب عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: «نِعم الرجل أبو بكر، نِعم الرجل عمر، نعم الرجل أُسيد بن حضير»، وأنعم بها من مكانة رفيعة: أن يقترن في حديث واحد مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جميعا، وما ذلك إلا لسبقهم في الإسلام، وصدقهم ولكل خير.
أما رواية بن الأثير بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فقد جاءت بنص الحديث: نِعم الرجل معاذ بن جبل نُعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نِعم الرجل معاذ بن عمري الجموح (أسد الغابة 1: 113)، وقد تكون الثانية حديثا مستقلا.
وجاء في السيرة لابن هشام، أن لأُسيد رضي الله عنه، مقالات في الحق نُصرة لله ولرسوله، حيث روى أن أسيداً في مقدمة الجاهزين عند كل نائبة الجهاد، والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه من الفرسان في الغزوات، ولما قال عبدالله بن أبي، في غزوة بني المصطلق في السنة السادسة من الهجرة، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، وسار لقيه أُسيد بن حُضير، فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رُحت في ساعة مُنْكَرة، ما كنت تَروحُ في مثلها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: عبدالله بن أبي؟.. مستفهماً ومقرراً.
ثم قال: وماذا قال؟ قال: زَعَم أنه إنْ رجعَ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنتَ يا رسول الله والله تُخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله أرفق، فوالله لقد جاء بك الله، وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكه (سيرة ابن هشام 3: 304)، وبقوته المعهودة وصلابته في الحق طمأن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله القوي، بعدما خاض المنافقون في إفكِ عائشة رضي الله عنها، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، بقولهم عليها غير الحق، وكان الذي تولى كِبره عبدالله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج.
قال ابن هشام: فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الناس يخطب، وسمعوا مقالته قال أُسيد بن حُضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفك إياهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج، فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم (سيرة ابن هشام 3: 313)، أما عن حُسن صوته عند تلاوة القرآن.
فقد كان من أحس الناس صوتا بالقرآن حتى أن الملائكة عليهم السلام، يأتون لاستماع صوته بكلام الله سبحانه وقد جاء في كنز العمال عدة أحاديث، تبين ما أكرمه الله به، منها ما روى عنه رضي الله عنه، بينما هو يقرأ من الليل، سورة البقرة وفرسه مربوط، إذ جالت الفرس فسكت، فسكتت ثم قرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منه، فأشفق أن تُصيبه.
فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء فإذا هي مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح، عَرجتْ إلى السماء، حتى ما يراه فلما أصبح حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرأ ابن الحضير ثلاث مرات، ثم قال تدري ما ذاك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: تلك الملائكة دَنتْ لصوتك بالقرآن، ولو قرأت لأصبح الناس حتى ينظروا إليها، لا تتوارى منهم، رواه أبو نعيم في الدلائل (كنز العمال 13: 277)، وقد رويت هذه المسألة بعدة روايات، مما يدل على أنها من الحالات المتواترة.
كما أنه رضي الله عنه لديه حِساً إيمانياً، مبعثه صدق الإلتزام، والإخلاص في العمل، فقد روت عائشة رضي الله عنه قائلة: كان أُسيد بن حضير من أفاضل الناس، وكان يقول: لو أني أكون كما أكون، على حال من أحوال ثلاث، لكنت من أهل الجنة، وما شككت في ذلك، حتى اقرأ القرآن، وحتى أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله، وإذا شهدت جنازة، وما شهدت جنازة قط، فحدثتُ نفسي سوى ما هو مفعول بها، وما هي صائرة إليه، إلا ذكرت وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فقهه رضي الله عنه ما رواه عروة: أن أسيداً بن حضير اشتكى، وكان يؤم قومه جالساً (السابق 79).
وهذه حالة المريض: كيف يصلي؟ أخذها أُسَيْد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عِلماً فطبقها عملاً، رضي الله عنه، أما ما عليه من دَيْنٍ بعد وفاته وتوزيعه:
فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد اهتم به، فصار توزيع دينه على الغُرَمَاء نبراساً يُحتذى في قضاء دين من له غرماء حتى يرضون.. فقد رُوي عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: لما هلك أُسيد بن الحضير، وقام غُرماؤه يطالبون بمالهم، فسأل عمر بن الخطاب: في كم يؤدى ثمر حديقته، ليوفي ما عليه من الدين؟ فقيل له في أربع سنين، فقال لغرمائه، ما عليكم أن لا تباع، قالوا: احتكم وإنما نقتص في أربع سنين.
فرضوا بذلك فأقرّ المال لهم.. قال: ولم يكن باع نخل أسيد، أربع سنين من عبدالرحمن للغرماء.
وفي رواية أن أُسيداً مات، وترك عليه أربعة آلاف دينا، وكانت أرضه تفلّ في العام ألفاً، فأرادوا بيعها فبعث عمر إلى غرمائه، هل لكم أن تقبلوا في كل عام ألفاً؟ قالوا: نعم (سير أعلام النبلاء 1: 343).
وقد استشهد الفقهاء رحمهم الله، بكثير من أقوال وأحاديث أُسيد بن حُضير، في مسائلهم الفقهية، على أنها حجة يؤخذ بها، و يقاس عليها، حيث أورد ابن قدامة في المغنى له أكثر من ست حالات، وقد توفي وأرّخ سنة وفاته الواقديّ وأبو عبيدة بأنه مات سنة 20 من الهجرة، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الهل عنهما، ودفن بالبقيع.