قلنا الأسبوع الماضي في إطار جوابنا على تصريحات وزير داخلية فرنسا إن مفهومه للحضارة لا يخرج عن التعريف الذي يقدمه هانتنغتون لمفهوم الحضارة؛ فهانتنغتون يتجاوز الدولة كمقياس للسياسة
الواقعية، وأصبحت الحضارة في نظره الفاعل الجديد، ولكنها تتصرف حسب المعايير المعروفة للمصلحة، فهذه الأطروحة في جوهرها تعتبر تنظيرا فكريا واستراتيجيا تحمل في طياتها مجموعة من الثوابت والمتغيرات عند شريحة كبيرة من المفكرين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة الذين يحتاجون دائما إلى العامل - العدو لتبرير الكثير من السياسات الداخلية والخارجية أو تقديم رؤية معينة للنظام العالمي ولموازين القوى بعد سقوط النظام الاشتراكي، حيث يتساءل هانتنغتون في هذا الباب: «إن السؤال الأكثر عمقا الذي يهم الدور الأمريكي في عالم ما بعد الحرب الباردة يدور حول ما إذا لم تعد هناك حرب باردة فما هي الغاية من أن تكون أمريكا؟»؛ وهذا شأن تصريحات وزير الداخلية الفرنسي وغيره من المسؤولين السامين في أوروبا عندما يقرب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية حيث يطرقون باب الحضارات والمهاجرين الأجانب لحشد أكبر عدد من الأصوات.
إن هانتنغتون يحصر الحضارة في كيان مغلق وثابت لا يتحرك، وتتوافر عنده على خصائص قارة تفصلها عن باقي الحضارات، وهاته الخصائص مرتبطة كل الارتباط بالثوابت اللغوية والتاريخية والتراثية والمؤسساتية والدينية. فالحضارات عنده «كيانات هادفة، وعلى الرغم من أن الخطوط التي تفصل بينها نادرا ما تكون حادة فهي تبقى خطوطا حقيقية»؛ وهاننتنغتون يرفض في هذا الباب التمييز بين الحضارة والثقافة، بل يستعملها في كثير من الأحيان كمرادفين، فتجده يقر بأن مصدر النزاعات في العالم سيكون ثقافيا وحضاريا: «الفرض الذي أقدمه هو أن المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدرا أيدولوجيا أو اقتصاديا في المحل الأول؛ فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدرا ثقافيا، وستظل الدول الأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل»، بمعنى أن العامل الثقافي والحضاري هو المصدر الرئيسي للانقسامات بين الشعوب التي تتطور في ظل تجمعات ثقافية كبرى تتمحور حول سبع أو ثمان حضارات: «مرحلة ما بعد الحرب الباردة تؤكد بشكل واضح أن الانقسامات الجوهرية بين الأفراد ليست ذات طبيعة إيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية بل ثقافية. العالم معرض لأزمة هوية شاملة حيث كل الشعوب والأمم تسعى للإجابة عن السؤال: من نحن ؟ ويجيبون بالرجوع إلى كل ما هو عزيز عليهم، أجدادهم، دينهم، لغتهم، تاريخهم، قيمهم، عاداتهم مؤسساتهم، وبالتحامهم في جماعات ثقافية على شكل عشيرة، مجموعة إثنية، أمة وأخيرا على شكل حضارة...». وهكذا كلام كله خطأ، فالحضارة والثقافة ليستا أمرا واحدا؛ فخلط الثقافة بالحضارة يدفع إلى تحويل جميع الفوارق النسبية اللغوية أو الإثنولوجية إلى فوارق حضارية، ويقود إلى التعسف في استخدام المفاهيم؛ ولا يمكن أن نتصور حضارة دون ثقافة أو ثقافات وهي الوقود التي تحرك الحضارات، ولا يمكن أن نتصور ثقافة من دون حضارات؛ إذ لا يمكن أن نتصور الحضارة كمجال تفاعل الثقافات من دون وجود هذه الثقافات المتفاعلة، كما أنه من الصعب تصور ثقافة معزولة كليا عما حولها وقائمة بذاتها؛ فهانتنغتون إيديولوجي يريد أن يعطي للحضارات والهويات طباع ليست فيها، فهي ليست كيانات مغلقة، مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيرتها التي تحرك المسيرة الإنسانية منذ قرون التي سمحت كما يكتب إدوارد سعيد «ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل جعلت التاريخ تاريخا للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري»، وهذا كلام صحيح. ففي الحواضر الكبرى تعايش المسلمون والنصارى واليهود وغيرهم في بيئة واحدة، فحميت الكنائس والبيع تماما مثل المساجد واستفادت من العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات السماوية؛ وكما يكتب أحد الكتاب المغاربة الأستاذ محمد الكتاني: «لقد التقى المسلمون بعد فتوحاتهم على امتداد القرن الأول الهجري مع شعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، فكانت المرحلة الأولى لهذا اللقاء مرحلة تصادم وصراع بين الفريقين. وبرغم تفوق هذه الشعوب حضاريا يومئذ، فإنها أذعنت لسلطان الإسلام السياسي، فغدت تابعة لدار الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، لكن في مقابل هذه السيادة العربية السياسية الدينية ظلت حضارات البلاد المفتوحة وثقافاتها هي صاحبة السيادة. وهو ما جعل البعض يقول بحق: «إذا كان المسلمون قد فتحوا بلاد الأعاجم دينيا وسياسيا، فإن هؤلاء الأعاجم قد فتحوا عقول العرب ثقافيا وحضاريا»، وهو ما يعني أن الحوار الثقافي والحضاري بين العرب والفرس والرومان وغيرهم كان ضرورة حتمية، على الرغم من الإقرار بأنه لم يكن سهلا، ولا تحقق بوفاق أو تسامح في بداية الأمر، وإنما نتج عن مخاض وصراع دام أكثر من قرنين أو يزيد.
إن الصدام الحضاري لن يكون كما يكتب غراهام فولر حول الأنبياء بل على سوء توزيع الثورة والقوة والنفوذ، فهناك 20 في المائة من ساكنة العالم هي التي تنعم بظروف عيش الدول المتقدمة، والهوة تزداد اتساعا بين الأغنياء والفقراء، وحسب تقارير المؤسسات الدولية، من ضمن ستة مليارات؛ سكان العالم، يعيش ثلاثة مليارات بأقل من دولارين في اليوم و1.2 مليار بأقل من دولار واحد في اليوم أي في عتبة الفقر المطلق، وهناك 1.5 مليار من الساكنة لا تتوافر على الماء الصالح للشرب وسوء توزيع الغنى في العالم الذي يزيد فجوته مع هيمنة العولمة، هي التي تزيد من درجة السخط والغضب وهي التي تؤجج العنف والصراعات الإثنية والعرقية.
فليست الثقافات هنا هي المسؤولة عن المجاعة في إفريقيا ولا عن هاته الفوضى الاجتماعية والفوارق الاقتصادية؛ والعولمة هنا بدل أن تقوم بإنماء الدول الفقيرة كما يظن البعض، فهي في شكلها الحالي «من شأنها أن تكون في مصلحة القوى الاقتصادية الأكثر قدرة وقوة، ورغم أنها تشكل قيمة مضافة بالنسبة للمنافسة وتقدم الإنسانية، فهي لا تخدم إلا جزءا من ساكنة العالم، القادرة على استغلال السوق والموارد المتوافرة»؛ وليست الحضارة والثقافة العربية هي المسؤولة عن سلطوية بشار الأسد، وعن التخلف والتراجع الحضاري واستمرار الضعف، فالعامل السياسي البنيوي السائد هو المسؤول عن ذلك كله؛ وتفسير هذه الظاهرة كما كان يفعله بعض الكتاب بالعامل الديني أو بالعامل الثقافي أو بالعامل الحضاري هو هروب من مواجهة الواقع المر، ويعفي من مغبة مواجهة الاستبداد السياسي المتمثل في نظام يحتكر مواطن النفوذ ويستحوذ عليها، وهذا الانحراف الفكري الخطير شبيه بنظرية هانتنغتون التي تساهم في توجيه الرأي العام الغربي إلى وجهات غالطة تبعده عن الرؤية الصائبة في تفسير الأزمات وعواملها الحقيقية وتغذيه في نفس الوقت بمشاعر الكراهية والعنصرية والعداء ضد الآخر الذي هو هنا المسلم والدين الذي هو هنا الإسلام، فالواقع أن نظريته لا أساس لها في الواقع ولا تتوافر على أي ميزة تحليلية تاريخية وعلمية تساعد الإنسان على توخي طريقه.