اعتدنا - حين نلتقي نحن المتقاعدين - على مداعبة بعضنا بعضا أو مداعبة البعض لنا عند السؤال عن الأحوال بنطق كلمة (متقاعد) بتسكين التاء ثم إكمال الكلمة بلفظة (قاعد) للتورية بمفهوم الموت قاعداً، ونتوهم أنها مزحة بريئة خالية من أي صلة بالواقع. هل هذا صحيح؟
إن الذين يقال عنهم (متقاعدون) هم إما موظفون في الدولة أو يعملون مقابل أجر منتظم عند مؤسسة أو صاحب عمل، وبلغوا من العمر حداً ينهي استمرارهم في العمل - في الظروف العادية - بموجب أنظمة تنظم ذلك. وهذا هو التقاعد النظامي - أي الإحالة على المعاش، حيث يصرف للمتقاعد معاش شهري - قليل أو كثير ليس هذا هو الموضوع - بحسب ما أفنى من سنوات عمره في الخدمة. فهو إذن يأتيه رزقه وهو قاعد في بيته. وهذا يبيّن اختلاف الوظيفة عن العمل الحر الذي يمكن لصاحبه أن يستمر في كسب رزقه بعرق جبينه وجهد عمله أو بدخل استثماراته. وفي أنظمتنا المدنية السارية فإن السن القانونية الذي يلزم عنده التقاعد هو ستون سنة. ولا ينطبق هذا على صاحب العمل الحر، فهو لا يتقاعد (بالمصطلح القانوني)، ولكنه يترك العمل أو يرتاح منه عندما لا يرغب فيه أو لا يقوى عليه بصرف النظر عن عمره. وعندما يريد الموظف - أو العامل - أن يمدّد له في الخدمة، أو يطلب منه أن يستمر فيها، فإن ذلك يعامل كحالة استثنائية تخضع لاشتراطات كثيرة من الناحية النظامية وتثير تحفظات كثيرة منطلقها أن في ذلك تجاوزا على حق الشباب المحتاجين للوظيفة لبناء مستقبلهم، ولسان حال المتحفظين يقول:
(دع (الوظائف) لا ترحل لبغيتها.. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي)
- طبعاً ليس هذا ما قصده الحطيئة.
لا بد من القول إن هذا الظلم الفادح يقع على المتقاعدين كأنه سوط عذاب يصُب عليهم، وما يدري أحد أن في استطاعة المتقاعدين أن يكونوا مفتاح الفرج لكثير من هموم المجتمع - إن كان في المجتمع قابلية للانفراج! فعندما تلمّ بالجامعات - مثلاً - ضائقة نقص في الكوادر الأكاديمية، فإن في التعاقد مع متقاعدين بعض التعويض. وعندما تحتاج دائرة حكومية أو مؤسسة إلى مشورة في وضع سياساتها أو تقييم برامجها أو منشآتها فإنها تجد في المتقاعدين من يتصف بالحكمة والخبرة في هذا الشأن، مثل تلك الأعمال يمكن - أو يجب - أن تؤدي لمهام محددة لا تتطلب التعاقد على وظيفة معتمدة ولا تحجب أي وظيفة شاغرة عمّن يستحقها.
و لكن ذلك يحتاج إلى مرونة في اللوائح النظامية وسعة في البنود المالية، ومن جهة أخرى هناك الكثير من الخدمات الاجتماعية والإنسانية والثقافية التي يمكن أن يقوم بها المتقاعدون إما تطوعاً أو بمكافأة مقررة.
لكن ذلك ايضاً يتطلب وجود مجتمع مدني ناشط وتشجيع حكومي. وليت الظلم أهوى بسوط التقاعد واكتفى! لكنه تسلط ايضاً بسلاح السن. وحيث يكون المتقاعد - في العادة - قد تجاوز الستين من العمر، فإنه في هذه السن أحوج ما يكون إلى ما يطمئن به على صحته. فإن كان مشمولاً بالضمان الصحي التعاوني - مثلاً - قبل تقاعده، أي قبل بلوغه الستين، فإنه بعدها منقطع الأمل. النظام يحرمه، والتأمين الخاص لا يقبله إلا بأقساط تثقل كاهله المثقل أصلاً بأوجاع المفاصل، ذلك طبعاً لمن لا يرغب في المعالجة المجانية الحكومية.
هذا صنف من عوائق السن، والصنف الآخر يتحدى المتقاعد إن احتاج إلى المال وأراد أن يقترض من البنك ليشتري سيارة لابنه أو ليساعده على الزواج. سوف يقابله في البنك وجه بشوش يبشره بأنه اتخذ القرار الصائب واختار البنك المناسب. لكن صاحب هذا الوجه البشوش ما يلبث أن يقطب جبينه عندما يقرأ تاريخ الميلاد المسجل على بطاقة الهوية ويخبره بكل أدب أن سياسة البنك - يا عم - لا تسمح بإقراض من نيّفوا على الستين (أو 65 أو 70 فلكل بنك سياسته). ويخرج طالب القرض من البنك صفر اليدين!
و هكذا خذله العمر في التأمين على صحته وفي تأمين حاجته من المال. والحقيقة أن الخذلان لم يأت من العمر، بل من خبراء التأمين الصحي والبنوك، الذين انطلقوا في حكمهم على من تجاوز الستين من مخلفات الماضي، حينما كانت الشيخوخة تقترن بكثرة الأمراض وكلفة العلاج أو قرب الوفاة ومن ثم ضياع الديون، هم لا يواكبون تقدم العصر ولا تقدم العمر. أجل! في بلادنا الحبيبة تقدم متوسط العمر المأمول (و الأعمار بيد الله) من (37) عاماً قبل 1370هـ إلى (57) عاماً في عام 1385هـ وإلى (61) عاماً في عام 1405هـ (المصدر: كتاب النظام الصحي السعودي)، وأخيراً (73.7) عاماً في عام 1431هـ (المصدر: الكتاب السنوي لوزارة الصحة 1431هـ).
في الوقت الحاضر يشكل المسنون فوق 65 سنة نسبة 2.6% من السكان (في اليابان - للمقارنة - 37%). وكلما زادت نسبة المسنين بين السكان وطالت أعمارهم زاد عبء المتقاعدين على الاقتصاد الوطني بسبب زيادة ما ينفق على معاشات التقاعد. هذا العبء الاقتصادي جعل بعض الدول - مثل فرنسا - تقرر رفع سن التقاعد بمقدار سنتين (من 60 إلى 62 عاماً). من نظرة اقتصادية بحتة ربما يكون موت المتقاعد أقل كلفة من بقائه على قيد الحياة! لكن الأعمار بيد الله ليست بيد صناديق المعاشات.
تقدم العمر رافق تقدم المستوى المعيشي وتطور الخدمات الصحية، وعلى رأسها الخدمات الوقائية، ومن ذلك - على سبيل المثال - الاكتشاف المبكر لعدد من الأمراض فتعالج أو تستأصل قبل بلوغ الشيخوخة.
ولعل من أوضح الأمثلة لقاح الأنفلونزا الموسمية. فهذا اللقاح كفيل - بإذن الله - بتقليل خطر الأنفلونزا على صحة وحياة كبار السن. ومن ثم توفير تكاليف العلاج على شركات التأمين. لا شك أن تحسن الوضع الصحي للشيوخ وارتفاع معدل العمر المأمول ظاهرتان تفرضان على شركات التأمين وعلى البنوك أن تعيد النظر في سياسات قهر الشيوخ. لكن - أيضاً - على الدولة والمجتمع أن يجدا الطريقة الصحيحة لتمكين كبار السن من ممارسة الحياة العملية المنتجة الراضية المطمئنة بدلاً من تركهم يموتون قاعدين! ولعل البداية تنطلق من جمعية المتقاعدين.