مسلسل من الاحتقان يتهيج بالساحة الثقافية السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت، وتنتقل بسرعة كل حلقة من حلقاته إلى كافة وسائل الإعلام والرأي السعودي العام. حمى هذا الاحتقان يصادر بها كل طرف حرية تعبير الطرف المقابل، ناهيك عن تقديم القضايا الفكرية الخلافية على القضايا الأساسية..
الجدل السجالي المحموم ينبع من الطبيعة الشعبوية للإعلام الافتراضي (الإنترنت) التي تتسم بالإثارة والمبالغة، حيث أغلب ما يظهر إعلامياً من كل تيار أقصى تطرفه وليس اعتداله. وإذا كان هذا الإعلام في الدول الديمقراطية العريقة يعاني مع تلك الحالة الشعبوية، فما بالك بنا على المستوى المحلي حيث بدأنا نشهد حراكاً وانفتاحاً ثقافياً وتعددية لم نعتد عليها فيما سبق أثناء سيادة الفكر الواحد الذي رمى بظلاله على المشهد الثقافي وكبله بقيوده.
بسبب إنتاجه الهائل، يتطلب إعلام الإنترنت مواد تلفت الانتباه لتجذب القارئ الذي أمامه ملايين الاختيارات. يجاهد الكاتب لإرضاء المتلقي باختيار المواضيع وبطريقة عرضها وتحليلها والموقف منها؛ فيصبح القارئ (جزئياً أو كاملاً) مؤلف النص. هذا له حدَّان: إيجابي في إضفاء الطابع الديمقراطي على الثقافة، وسلبي في سطحية المنتجات الثقافية وتوجهها نحو المبالغة، فيكون الصوت المسموع من كل تيار هو الصوت الذي يصل إلى أقصى تخومه، الذي يصل إلى ذروة حدود التطرف في مقولات كل تيار. هذا يجعل المفردة أكبر من معناها والصوت أعلى من موجته.. وتغدو مجرد تغريدات طارئة في تويتر زلزالاً يهز الرؤوس، فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى «ما فوق الحقيقة» (hyperreality) على حد تعبير بودريار.
كيف يكون شيء ما أكثر حقيقة من حقيقته؟ إنه تداخل التفكير مع المقولات المتتالية ومع الخيال بتأويلاته الشاطحة.. فالخيال رغم أنه أقل تجسداً من الواقع، فهو أكثر استمرارية في فكر المتخيل. هذا الخيال مع تضخيم المقولات المتتالية وتفاعلها في بيئة الهيمنة الإعلامية، يجعل المقولة مكثفة وأكبر مما تحتمل، ويجعلها في المخيلة مقولة أكبر مما تقول.. ويجعلنا نرى التيار الآخر متطرفاً أكثر من تطرفه، لأننا لا نسمع إلا مقولات متطرفيه التي يتم تضخيمها في مخيلاتنا، ولا نسمع آراء المعتدلين من كل تيار لأنها غير لافتة للانتباه.. ليصبح المتخيل هو الواقع، بينما الواقع شيء متوارٍ..
لنأخذ مثال تغريدات الكاتب صالح الشيحي الذي لا علاقة له بصراع التيارات. لقد كتب عبارات انطباعية حادة ممتعضاً من سلوكيات بعض المثقفين والمثقفات في فندق ماريوت. المتوقع أن يتم الرد عليه وتنتهي الحكاية. لكن تحول الرد إلى نقد حاد ثم إلى صراخ متبادل، ثم تضخَّم إلى مطالبة بإيقاف الكاتب، وتضخّم أكثر إلى المطالبة بمحاكمته. والذين طالبوا بذلك هم أفراد من تيار الحرية! وفي خضم الاحتقان انبرى أفراد من التيار المقابل ودافع عن مقولات الشيحي وضخموها كحقيقة عامة على المثقفين، ثم حولوها إلى صراع وشن معارك على الصحافة السعودية.. وعقدت لقاءات فضائية وخطب منبرية وفتحت معارك إنترنتية.. وصارت هذه الغريدات البسيطة، وأشباهها، من قضايانا الكبرى، وكان يمكن أن تمر بلا تعليق!
لا يكتفي متطرفو كل تيار بتشويه التيار الآخر، بل يجعلون الحرب عليه من أكبر قضايانا. الأسبوع الماضي، كلمني صديق عن مقالي الأخير حول البطالة، قائلاً: هل أنت تعيش في المريخ لتختار موضوع البطالة؟ في إشارة إلى أني لم أكتب شيئاً حول تغريدات الشيحي وكشغري ومحتسبي الجنادرية، التي قامت من أجلها حملات إعلامية هائلة.. كيف أرد عليه؟ لم أزد غير أني انفجرت في حالة ضحك تشبه البكاء.. «وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل»!
هذا الصديق لم يكن وحده، فقد لامني البعض في التعليقات على المقال، ولامني بعض الإعلاميين عندما اعتذرت عن عدم المشاركة في تحقيقات صحفية أو لقاءات فضائية حول تلك المواضيع.. ولم أكن وحدي، فقد نال اللوم كتّاباً لم يتبعوا ركب مواضيع تلك الحملات الإعلامية.. وبعض هؤلاء أعلن شكواه من مضايقة الأصدقاء لهم ومطالبتهم بالكتابة في ذلك أو اعتبارهم متخاذلين، أو في أدنى الأحوال بعيدين عن هموم الناس، ويعيشون في برج عاجي..
لا تنحصر حمى الاحتقان بين التيارات في تواري القضايا الواقعية الأساسية أمام قضايا فكرية وسلوكيات أخلاقية، بل أيضاً تجعلنا نصادر حرية بعضنا البعض وتخويف الكاتب مما يكتب، عبر تأليب الرأي العام على من يخالفنا والمطالبة بإيقافه أو محاكمته، فبدلاً من الرقيب الرسمي وبدلاً من الجهات الرسمية المسؤولة عن التجاوزات، ينبري رقباء مكارثيون (اجتماعيون ودينيون وثقافيون..)، ويغدو الرقيب الرسمي ملاكاً وديعاً..
لا أقصد أن كل ما يجلبه الإعلام الافتراضي هو إزاحة للواقعي، فكثير من قضايانا الأساسية نجح الإنترنت في تناولها، ناقلاً الافتراضي إلى بؤرة الواقعي. علاقة الافتراضي بالواقعي يمكن تصورها كدائرتين تلتقيان في حدودهما وتتداخلان حتى تتطابقان، ولكن يمكن أن تتباعدا فيسيطر الافتراضي على الواقعي، لأن التفوق في المنافسة هو للافتراضي. وإذا كان الواقعي هو الذي يصادق على الإعلام في زمن الحداثة، ففي زمن ما بعد الحداثة أصبح الإعلام هو الذي يصادق على الواقعي، على حد تعبير الفنان الأمريكي براد هولند الذي يردف موضحاً: «إذا كنت لا تصدق ذلك، فقط فكِّر كم مرة قمت بوصف حدث واقعي قائلاً إنه يشبه فيلماً».
لقد أصبحت مواقع التواصل في الإنترنت منصات الانطلاق للحملات الإعلامية لدينا، بل أصبح الإنترنت هو المصدر الأول للأخبار لمستخدميه (أكثر من 13 مليوناً في السعودية)، فيما تأتي ثانياً قنوات الإعلام الحكومية، حسب استبيان كلية دبي للإدارة الحكومية. الإثارة والمبالغة اللتان يعتمدهما الإعلام الافتراضي تجعلان أقوى المقالات عن القضايا تعتمد على البلاغة والمهارة اللفظية وحدَّة العاطفة أكثر من اعتمادها على العقلانية والمهنية (الوثائق والإحصاءات والدراسات، وآراء الخبراء والمختصين، وكشف المعلومات المحجوبة).
السؤال هنا، هل ستتنامى حالة الإثارة والمبالغة؟ هل ستكون الأولوية لنوعية من القضايا المثيرة الصاخبة؟ أظن أن نوعية القضايا ستختلف، كما أن حدة الطرح ستخف حين يعتاد الناس على التعددية في الآراء والأفكار، ويتحول الإعلام إلى ميدان تفاعل أكثر منه مبارزة.. لكن من المهم أن لا ينتج من المبارزات الحالية ضحايا أبرياء..
alhebib@yahoo.com