كنت أتصفّح مدوناتٍ خاصة كتبتُها في أوقاتٍ متفرقة، يتعلقُ بعضُها بالشأن العام في بلادنا، وكان من بين تلك الأوراق مشروعُ مقالٍ كتبتُه قبل أكثر من ربع قرن تقريباً يتحدث عن (الأزمة) التي يواجهُها خريجو الجامعات بحثاً عن ضالّتهم الأثيرة (الوظيفة الحكومية)، وقليلون منهم ينشدونها في القطاع الخاص!
***
- وقد عجبتُ كيف يستمرُّ الحديثُ عن هذه (المحنة) التنموية حتى يومنا هذا في ظل ما نقرأُه عبر أعمدة الصحف وملاحقها، ناهيك عمّا نسمعُه في المنتديات المتفرقة ممّا يعني أنّها ما برحتْ تُطرَحُ بإلحاحٍ عبر هذه المنابر مجتمعةً بمفاهيمَ متباينةٍ!
***
- اقتطف عبر السطور التالية، بعضاً ممّا جاء في المقال الذي أشرتُ إليه في مقدمة هذا الحديث عن الموضوع، وكأنني حررته الليلة البارحة، حيث قلت:
(( ... يتواصل الجَدلُ هذه الأيام حول بعض خريجي الجامعات الذين يخطبُون ودَّ الوظيفة، فلا يجدون إليها سبيلاً، ثم يقبلُ بعضُهم على بعض يتلاومُون. ففريقٌ منهم يلومُ نفسَه لأنه اختار تخصُّصاً لا جدوى منه ولا مستقبل له، وفريقٌ آخر يلومُ الجامعة لأنها لم ترشدْه إلى الصراط السويّ، قبل أن يبدأَ مشوارَ سنينهِ الأربع أو الخمس داخل أسوارها، وآخرُون منهم يلومُون أُسرَهم أو رفاقهَم لأنّهم رسمُوا لهم القناعةَ باقتحَامِ مجَاهِل تخصُّصٍ لا مردودَ له وظيفياً!))
***
- ثم مضيتُ أقول:
((... وهناك من يُسَاندُ موقفَ الخريج معاتباً الجهاتِ المعنيةَ بالقوى العاملة، لأنها لم تفصحْ عن المساراتٍ التي يمكن أن يسلكَها الخريج، قبل أن يتّخذَ قرار المصير حول هذا التخصص أو ذاك. ومن عجب، أننا بقدر ما نسمع من ضروب العتَب تُساقُ باسم الخريج أو على لسانه، نُواجَه بحزمةٍ من الاعتذارات لكل موقف من المواقف السابق ذكرها، فالجامعة تدفعُ عن نفسها اللومَ بأنّ مسئوليتَها تقتصرُ على تقديم التخصُّص، وفقَ معاييرَ أكاديميةٍ، شأنُها في ذلك شأنُ كل جامعات الدنيا.
***
- والخريجُ يدافعُ عن موقفِه بالقولِ إنه لو عَلم الغيبَ لا سْتكثَر من الخير، لكن جهلَه بقواعد العرض والطلب في (سوق) العمل جعله يسْلكُ مساراً غير مرغوبٍ وظيفياً، ثم يتسَاءلُ بعد ذلك عن الحكمةِ في حرمانه من (الوظيفة) (ثمناً لجهله)!
***
- أما الأهلُ والأقربُون والرفاقُ فإنهم يدْفعُون عن أنفسهم تُهمةَ التغرير بالخريج قائلين: ما عَلمِنا إلاّ ممَّا سمعنا، ولو علمنا خيراً من ذلك ما حجْبنَا النُّصحَ للخريج وما نحن إلاّ مجْتهدُون، نْبتِغي خيرَ الخريج وصلاحَه، حاضراً ومستقبلاً!
***
- ثم ختمت المقال قائلاً:
((...كانت تلك بعضَ أطراف الجَدل القائم، حول بعض الخرَّيجين الجامعيين الذين يُؤْرقهم البحثُ عن الوظيفة فلا يُفْلِحُون، ومن ثمَّ يلجأوُن إلى وسيلة الإسقَاطِ ينْثُرون من خلالها العتبَ والشكوى، مرةً للأهل وأخرى للجامعة وثالثة للرفاق، وقليلون الذين يَعدُّون أنفسَهم، مصدراً للوم أو العتب أو الشكوى!))
***
- والحقيقةُ التي لا مفرَّ منها أن للخريج بعضَ الحق، فيما زعم، وعليه مثل ذلك من الحق فيما قال:
أ) فقد كان بإمكانه ممارسةُ حرية (السؤال) عن هذا التخصص أو ذاك لدى من يملكُ جواباً، لكنه لم يفعل ذلك، واكتفى بما انتهى إليه، انطباعاً لا قناعة!
***
ب) وكان على الأهل والرفاق أن يرشدُوه تحْرِيضاً على السؤال والبحث، لا تمْريراً لقنَاعاتهم إليه التي لا تقُومُ في حالات عديدة إلاّ على شيءٍ من الظنَّ مما لا يغني عن الحقيقة شيئاً!
***
ج) وكان على الجامعة أن تَطرحَ له المشورةَ ولا تلزمُه بها، حول هذا التخصص أو ذاك، فإن أبَى وأصرّ على سلوك دربٍ بعينِه فمسئوليتُه هو، لا وزرَ لغيرِه فيه، أهلاً ولا خِلاً!)) (انتهت مقتطفات المقال القديم)
***
وبعد..،
- فما أشبهَ الليلة بالبارحة في الجدل حول الخريجين، وما أحسبُ أنَّ هناك تبايناً كبيراً بين ما كتبتُه قبل ثلاثة عقود عن هذا الموضوع، وما نقرأهُ ونسمعه ونشاهده اليوم، إذ لا يختلف الطرح عنه في شيءٍ، سوى أن آليات التواصل وقنوات المعرفة قد ازدادت تعدديةً وكثافة وتعقيداً، لكن تبقى أصولُ وفروعُ القضية كما كانت قبل نحو ثلاثة عقود، وكما هي اليوم، وقد تستمر إلى حين!
- وتبقى بعد ذلك (أم المشكلات)، وهي إصرار الخريج على (الاقتران) بالوظيفة الحكومية، حتى لو وجد لها البديل!!
