كان ميلاد النفط الحقيقي عام 1859 وسعر لأول مرة عام 1960، ومنذ تلك الفترة والنفط تزداد أهميته عاما بعد آخر رغم أن أسعاره كانت بعد أول تسعير له عند فوهة البئر بـ 9 دولارات للبرميل لم تصمد كثيرا،
بل أخذت مسيرتها صوب النزول التدريجي، رغم الزيادة المستمرة لاستهلاك تلك السلعة التي تعد اليوم أغلى سلعة عرفها التاريخ الإنساني.
النزاعات والصراعات والحروب السياسية الشرسة في القرن المنصرم حتى عام 1973م لم تستطع رفع سعر النفط، فمثلاً الحرب الكونية الأولى 1914 - 1918 رغم ضراوتها وشراستها إلا أن سعر النفط بقي على حاله إلى حد كبير دون ارتفاع، ثم إن الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 هي الأخرى رغم اتساع رقعتها وشدة وطأتها وانجراف معظم الدول الكبرى لدخول ساحتها فإن النفط رغم أنه كان عصب تلك الحرب خاصة الأمريكي، إلا أن السعر لم يبلغ الثريا خلال تلك الحرب وبعدها.
ورغم أن نفط الخليج العربي الذي قال عنه تشرشل (من يملك بترول الشرق الأوسط يملك العالم) رغم أن هذا النفط لم يكن ذا أثر كبير في آلة الحرب إلا أن تشرشل على ما يبدو عرف ذلك من خلال سيطرة بلاده على مستعمرات عدة وتفوقها في الحرب العالمية الأولى، عندما تحول الأسطول البريطاني آنذاك إلى النفط، وكان ذلك هو السائد في الحرب الكونية الثانية، عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية نفطية استطاعت أن تزود آلة الحرب وحلفائها من الدول الأوربية بحوالي 90 في المئة من احتياجاتها من البترول الذي كان سببا رئيسا في انتصار الحلفاء على هتلر النازي وحلفائه.
وإذا كان سعر تلك السلعة السحرية بقي على حاله تقريبا حتى عام 1973 رغم تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) عام 1960 للدفاع عن مصالح أعضائها، إذ كان عند تأسيس تلك المنظمة بحدود (2) دولار للبرميل وأخذ يتأرجح بين هذا الرقم الصغير وآخر اصغر منه ليبلغ في ذلك العام 1973 ما بين 2 و1.80 دولار وثمانين سنتا للبرميل، لتأتي انتفاضته الأولى مع حرب رمضان المبارك من ذلك العام لتبدأ مسيرته صعودا حتى أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم عندما بلغ سعره مابين 39 و40 دولارا للبرميل، لتبدأ رحلة أخرى من الانخفاض في أواسط الثمانينيات ليبلغ (7) دولارات واستمر حتى أوائل التسعينيات لنرى ارتفاعا محدودا لسعر النفط ثم تراجعا آخر عندما بلغ سعره عشرة دولارات.
ومع بزوغ شمس هذه الألفية وتحديدا مع شن الحروب الأمريكية والبريطانية على كل من أفغانستان والعراق واحتلالهما جاءت ثورات أسعار النفط المتعاقبة لتكسر حاجز 147 دولارا للبرميل عام 2008 رغم أن الاستهلاك العالمي من النفط (حقيقة) لم يشهد ذلك الارتفاع الذي يشفع للنفط بارتفاعه، ولم يتوقف زحف الاسعار حتى هبت عاصفة الزلزال الاقتصادي الكبير في ذلك العام.
اليوم وأسعار النفط تدور مابين 100 و120 دولارا للبرميل مع بقاء الاستهلاك من النفط على حاله تقريبا بحدود (87) مليون برميل يوميا، فإن هذه الأسعار تدعمها حالة عدم اليقين، حيث يعيش العالم متغيرات سريعة، من سياسية واقتصادية واستراتيجية، وتحديدا في المنطقة العربية والوضع المتأزم بين الغرب بقيادة أمريكا وإيران بقيادتها غير (الحكيمة) بشأن ملفها النووي وإعلان نجاد مؤخراً أن بلاده تقدمت خطوات جديدة في برنامجها النووي وتهديداتها المتوالية بإغلاق مضيق هرمز في حالة شن هجوم يستهدف منشآتها النووية، وبذا فهي على حد قول رئيسها نجاد ستحرم العالم من ضخ حوالي 35 في المئة من النفط المنقول بحرا ما بين 18 - 20 مليون ب/ي من خلال ذلك المضيق الإستراتيجي الهام الذي تعبره يوميا حوالي 30 ناقلة نفط.
الغرب الذي ضيق الخناق على طهران من خلال العقوبات الاقتصادية التي امتدت إلى القطاع العسكري والنفطي والاقتصادي والمالي، أصبحت في حالة تشبه عزلة كوريا الشمالية، وإذا كان نجاد وزبانيته يدعون أن جيشهم (الجرار) مستعد لرد أي هجوم على منشآته العسكرية، فإن هذا من الوجهة العسكرية والاستراتيجية هو ضرب من المحال فالحقائق العسكرية والاستراتيجية تقول بأن دولة واحدة مهما ملكت من (القوة) فإنها ليس بإمكانها هزيمة دول عدة، فكيف بها إذا كانت دول عظمى، ثم إن ايران وإذا كان بإمكانها بث الألغام في المضيق لشل حركة السفن العابرة منه والداخلة إليه أو من خلال إغراق سفينتين من الحجم الكبير في ذلك المضيق (الضيق) فإن المجتمع الدولي سيعاقب طهران (بالتدمير) لكونها أغلقت مضيقا مائيا يعتبر الأهم في عالم اليوم والقانون الدولي وقانون البحار يمنح الحق لكل سفن العالم المرور من ذلك المضيق وغيره من المضايق والقنوات البحرية!!
إذا هذا المرور من خلال ذلك المضيق الحيوي هو حق مطلق لسفن العالم، ثم ان المضيق تقتسم الإشراف عليه دولة الإمارات مع ايران، وإذا كانت الأخيرة قد احتلت جزر الإمارات الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى بـ(القوة) المعراة فإن ذلك لا يعطي المحتل الحق القانوني بالحديث عن المضيق وكأنه جزء لايتجزأ من الأرض الايرانية، وحري بالعالم الذي وقف صفا واحدا خاصة دول الغرب ضد برنامج ايران النووي، أن يقف نفس الموقف مع الإمارات لاستعادة جزرها المحتلة ليحقق المجتمع الدولي تطبيق القانون الدولي وقانون البحار وميثاق الأمم المتحدة والوقوف الى جانب صاحب الحق ضد المعتدي.
المهم اليوم أن أسعار النفط تمر بحالة من عدم اليقين، فإيران التي من ضمن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها هي مقاطعة نفطها الذي تصدر منه حوالي 20 في المئة إلى أوربا وحوالي 50 في المئة إلى كل من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، هذا يعني أن إيرادات ايران من نفطها الذي تعتمد عليه ميزانيتها بحوالي 75 في المئة سيلحقها الأذى الاقتصادي الذي سيمتد أثره إلى الشعب الإيراني الذي يبلغ تعداده حوالي 75 مليون نسمة بفعل سياسة قيادته التي أعلنت الأحد الماضي قطع إمداداتها النفطية إلى بعض دول أوربا التي من جانبها سبقت ايران بفرض العقوبات عليها لمنعها من امتلاك القوة النووية.
والسؤال هل هذه العقوبات الاقتصادية ستوقف البرنامج النووي الإيراني؟ الإجابة بالطبع لا، فمن يملك جوهرة لن يقذف بها إلى قاع المحيط ليلتقطها سمك القرش، ونعتقد أن ذلك ليس غائبا عن الدول الكبرى التي تعهدت بمنع إيران من امتلاك (القوة) النووية المؤثرة في العلاقات الدولية، بل إن السياسة الدولية كثيرا ما تسمى بسياسة (القوة) لكن المجتمع الدولي اليوم منشغل بمشاكله الاقتصادية والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا هي الأخرى منشغلة بانتخاباتها الرئاسية، وطهران تجيد لعبة المناورات في ظل مشهد دولي مازال مهددا بتأجيج صراعات وحروب ومتغيرات ستكون لها انعكاساتها السلبية على دول عديدة في مقدمتها الدول العربية على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
أما تخوف سوق النفط الدولية من ارتفاع أسعار النفط في حالة انقطاع الإمدادات النفطية من إيران، فإننا لا نجد له ذلك المبرر القوي فصادرات إيران بحدود 2.5 مليون برميل يوميا وسوق النفط الدولية لديها فائض من النفط يزيد على صادرات إيران يبحث عن المشترين، والصادرات الليبية من هذه السلعة في ازدياد مستمر لتبلغ حجمها قبل الثورة التي أطاحت بالقذافي (1.7) مليون برميل يوميا في المستقبل القريب، وسفينة الأوبك والدول المنتجة للنفط خارجها بإمكانها تزويد تلك السوق بما تحتاجه من النفط.
ويبقى القول: إن التخوف من نقص الإمدادات بسبب انقطاع صادرات إيران النفطية غير مبرر خصوصا لمن يتتبع مسيرات أزمات النفط منذ الحرب الإيرانية - العراقية ثم احتلال الكويت ثم العراق، والحروب الإسرائيلية على لبنان وغزة، أما إغلاق المضيق بأيد إيرانية فإن العارف بالسياسات والعلاقات الدولية والاستراتيجيات والفكر العسكري سيقول بأن المجتمع الدولي سيقطع تلك اليد إذا امتدت لتحرمه الماء الذي يشربه حتى لا يموت عطشا!!
وعلى الجانب الآخر فإن امتلاك ايران للقوة النووية سيدخل المنطقة برمتها في سباق محموم لامتلاك (القوة) وستعود الحرب الباردة إلى سابق عهدها الذي ولى بانهيار جدار برلين، بل إن العالم سيشهد صراعا دوليا لتقاسم النفوذ، سيكون سببه أولا وأخيرا السياسة الإيرانية (المتعصبة) وستكون طهران وشعبها في نهاية المطاف الخاسر الوحيد، وهنا ستندم عندما لا ينفع الندم.
(*) رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com