قال أحد الحكماء في قديم الزمان: «تنتهي سيرة الكثيرين من البشر بانتهاء حياتهم, وتختتم بوفاتهم. أما سير العظام منهم فلا نهاية لها, لأن إنجازاتهم وآثارهم تمضي بعيداً بعيداً, وتبقى واضحة للجميع قريباً قريباً, لتقوم بقسطها في بناء الحاضر والمستقبل. وقال أيضاً (فاليري جيسكار ديستان): «أعتقد أن الرجال الذين يشاركون في صناعة تاريخ بلادهم هم أولئك الذين يجابهون التحديات الأكبر, الذين يبعثون على الاعتقاد بأنه ليس ثمة هدف خارج عن متناول أيديهم, وينتهون إلى بلوغه».

من هو المرحوم الشيخ عبدالعزيز المقيرن؟ وماذا فعل؟ ومتى...وكيف عاش... وما هو الإنجاز الذي تركه لنا بعد وفاته؟ أسئلة كثيرة وضعتها أمامي وأنا أستعد الكتابة عن هذا العملاق, هذا المواطن السعودي وغيره الكثيرون, ممن سطروا بأعمالهم صفحات مشرقة في سجلات الزمن وأشادوا صروح الإنجاز في بلادهم, وكانوا منارات يهتدى بها. إنه مؤسس الغرفة التجارية بالرياض والتي هي صرح من صروح التنمية والإنجاز والتي قدمت ولا زالت تقدم خدماتها للجميع: «مواطنين ومقيمين... رجال ونساء... تجار ومستهلكين... باختصار هي فخر واعتزاز للجميع».

وتعود بدايات فكرة تأسيس الغرفة التجارية على يد المغفور له بإذن الله الشيخ عبدالعزيز المقيرن -طيب الله ثراه- (وبعض المخلصين تحت رعاية كريمة من لدن القيادة الحكيمة). هذا يأخذنا إلى الحديث الذي أدلى به الشيخ المقيرن في آخر لقاء مع مجلة (تجارة الرياض) قبل وفاته عن قصة التأسيس, حيث ذكر يرحمه الله: «أن مساعي تسويق وترويج فكرة التأسيس لم تكن سهلة أو ميسرة, لكن قناعتنا وإيماننا بجدواها وأهميتها كانت هي الغالبة في أوساط التجار, فقد التقطنا أول خيط لبداية خطوات المتابعة مع الجهات الرسمية من خلال اقتراح (قدمته) لمعالي وزير المالية آنذاك عن التجار في الرياض بأن يعملوا معي على أن تكون لنا (غرفتنا التجارية) الخاصة. ومن ثم بادرنا على الفور بإعداد خطاب إلى مقام ولي العهد حينذاك (المغفور له بإذن الله صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالعزيز) -طيب الله ثراه- عرضنا فيه على سموه رغبتنا في إنشاء (غرفة تجارية بالرياض). وقد كتبت الخطاب بخط يدي, ووقعه مجموعة من التجار منهم: «سعد التخيفي - سعد بن سعيد - سليمان الغنيم - والوالد سليمان المقيرن - صالح الراجحي - صالح بن عبدالقادر - عبدالعزيز الحقباني... وغيرهم (رحم الله الأموات منهم وأمد في عمر الأحياء) وأعطينا صورة من الخطاب إلى معالي وزير المالية للإحاطة بمضمونه».

ويكمل الشيخ المقيرن -يرحمه الله- حديثه (لمجلة تجارة الرياض) بالقول: «وقد تفضل سمو ولي العهد بالإجابة على خطابنا ببرقية خطية وجهها سموه لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حينذاك -يحفظه الله- وما زلت أحتفظ بصورة البرقية, والتي قال فيها سموه: «إن نظام الغرف التجارية يدرس الآن في مجلس الشورى وسوف يزوده بصورة منه عند انتهائه».

ويضيف الشيخ المقيرن -طيب الله ثراه-, بعد مرور بعض الوقت على هذه الخطوة, اقترحت على زملائي ضرورة أن لا يتوقف مسعانا وأن نجدد الطلب والاتصال مع الجهات التي يمكن أن تسند جهودنا ومسعانا, وأبدى الجميع موافقتهم وحماسهم وكلفوني بمتابعة الموضوع». وهنا لا بد أن نتوقف قليلاً وأن نحلل إصرار الشيخ المقيرن -يرحمه الله- والذي ينطبق عليه قول أحد الشعراء:

لا تحسبن المجد تمرا أنت أكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وقول شاعر آخر:

ومن يتهيب صعود الجبال

يظل أبد الدهر بين الحفر

نعم لم يستطع الشيخ المقيرن تحقيق حلمه بتأسيس (الغرفة التجارية) إلا بعد أن بذل الجهد والمال والوقت, ولنسمع قوله يرحمه الله: «لم يكن أمامي سوى أن أتوجه لمقابلة (صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله-) لما عرف عنه منذ ذلك العهد من قربه لوجدان المواطن واستعداده الدائم لتبني مثل هذه المبادرات التي تخدم المواطنين والمقيمين على حد السواء, فذهبت لمقابلة سموه وعرضت عليه -يحفظه الله- رغبتنا في أن يكون لمدينة الرياض (غرفة تجارية) وشرحت لسموه ما يبديه بعض التجار من مخاوفهم (بأن تكون بمثابة (محكمة تجارية) وطلبت الاستفادة برأيه الحكيم فيما يجب أن نقوم به, فنصحني سموه بمقابلة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم, مفتي الديار السعودية -حينذاك- يرحمه الله».

واستمر الشيخ المقيرن -يرحمه الله- في سرد حكاية تأسيس (الغرفة التجارية) بالرياض, والتي لم تكن سهلة أو كما قال الشاعر (تمرا أنت أكله), إلا أن جهوده وجهود زملائه التجار تكللت بالنجاح في تأسيس (الغرفة التجارية بالرياض) والتي يسجل التاريخ تأسيسها الفعلي إلى توفيق من الله عز وجل, ثم للوفاء والاعتزاز لعطاءات القيادة الحكيمة وعلى رأسها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله- ودعمه اللامحدود وتشجيعه الدائم لها منذ تأسيسها الفعلي على يد الشيخ عبدالعزيز المقيرن -طيب الله ثراه-.

farlimit@farlimit.com
الرياض