|
الموت هو الحاجز الأخير الذي يفصلك إلى الأبد عمن تعرفهم.. بعض الناس عاشرتهم، وجمعك بهم واقع جميل وذكرى عذبة، وبعضهم سمعت بهم ولم يجمعك بهم موعد أو مصادفة.. وبعضهم لفظوا أنفاسهم الأخيرة قبل أن تولد.. الموت هو الضيف الثقيل العادل الذي لا يستثني أحداً، ويستوي عنده البشر، حين يسرق الصغير والكبير، والفقير والأمير، الطيب والخبيث.. هو الموعد المؤجل لزمان ومكان لا نعرفه، بل كل ما يعرفه علمنا المتواضع أنه ضيف قادم لا محالة.
قال تعالى {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت}.
لكن تباغتنا الأسئلة أحياناً، وتتمكن منا؛ فتغزو أعماقنا، وتسكن أفكارنا، دون أن نجد إجابة عن أي منها.. لماذا هو؟ لماذا الآن؟
هذه الأسئلة التي لم تخطر على بالي يوماً ربما لأنني لم أفقد شخصاً قريباً كقرب أبي إلى القلب والروح، إلا في يوم غلبت فيه الأحزان الأفراح، وفاخرت الكآبة بسطوتها على مشاعر السرور، وانتصر الوجع بكل غطرسة وتكبر على الراحة، ونعيت فيه السعادة، وكان العقل في حيرة من أمره، عاجزاً عن إخبار القلب بالخبر رحمة بالقلب وشفقة عليه، إلى أن أصدر العقل بياناً صعب الاستيعاب، شديد اللهجة، حازم الخطاب، يميل إلى التعقيد أكثر من الوضوح، ينعى فيه معلمي ووالدي عصام بن عبدالله الخميس، ويعلن رحيله إلى الأبد.. أين؟ في مدينة لوس أنجلوس التي كان يتلقى بها علاجه إثر مرض خبيث ألمَّ به وسرقه بلمح البصر، فتُوفِّي على السرير «الأسود» لا «الأبيض» كما يسميه البعض فيظلمون لون القمر وطهر الغيوم ونقاء الثلج.. أن يموت معلمك وصديقك وأقرب البشر إلى نفسك وهو بعيد عنك آلاف الأميال لأمرٌ مؤلم ومدمِّر، تدمع له الأعين، وتذوب لأجله القلوب، وتختلط فيه العبارات.. أن تتلقى خبر وفاة والدك عبر الهاتف دون أن تستطيع توديعه وإلقاء نظرة على ملامحه الطاهرة لآخر مرة، وسؤاله إن كان راض عنك أم عاتب عليك..؟ متى؟ في تاريخ 15-2-2011.. كيف؟ إنه لأصعب الأسئلة وأسهلها كذلك.. أسهلها أن تقول قضاء الله وسُنّة الله في الكون منذ الأزل، ويرتاح فؤاد المؤمن.. وأصعبها حين تعلم أنك لن تقبّل كفاً لطالما امتد ليعطيك ويساندك ويشد من أزرك مرة أخرى.. وتقبل مجبراً أن والدك معلمك وتاج رأسك وسندك في الشدائد وابتسامتك في الأفراح سيغيب إلى الأبد.
اسمحوا لي اليوم أن أعطّر مقالي بذكر محاسن هذا الرجل العظيم بعيوني أنا ابنه، وبعيون كثير مما عرف عصام عن قُرْب.. كان - رحمه الله - رمزاً للوطنية وعنواناً لحب الأرض والوطن بمختلف أجزائه وأنحائه.. كيف لا؟ وهو من لم يبق مدينة أو هجرة إلا وقد زارها ملبياً نداء الوطن المرتفع في أعماقه.. فكانت دائماً ما تأخذه الحمية على هذه البلاد المباركة التي كان يفاخر بها ليس قولاً فحسب بل فعلاً باجتهاده في مناصبه الحكومية المتعددة للدفاع عن وطنه والذود عنه لإيمانه الكامل وعلمه بأن المواطن إن بدأ بنفسه سيُحدث فرقاً إيجابياً في وطنه ومجتمعه.
وكان دوره الأسري مؤثراً؛ فقد كان حريصاً كل الحرص على التلاحم وصلة الرحم ولمّ الشمل وذم التفرقة، وإقامته المناسبات بشكل مستمر بروح المستضيف المحب والسعيد بضيوفه خير دليل وبرهان.
كان والده الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله - يلقبه بالابن البار؛ فقد كان والدي دائماً ما يقرأ عليه الكتب، ويأنس الشيخ به وبحديثه المنمق؛ فهو الذي رباه على حب الشعر والأدب والسلوك النبوي الحسن؛ فهذب فكره ولسانه، وأثمر فيه ولله الحمد.
أما على الصعيد الاجتماعي فكان والدي يملك أصدقاء بامتداد أرض المملكة والخليج، يحفظ أسماءهم، ويذكر أفعالهم، ويشكر أفضالهم، ودائماً ما كان يردد لي: «ابنِ لك في كل ديرة قصراً»، وحين سألته كيف؟ قال: «خل لك في كل ديرة صديقاً»، وهذا يخبرنا عن عظم شأن الصداقة ومعناها بالنسبة له.
فانعكس إحسانه للوطن والأسرة والمجتمع عليه بالإيجاب، بأحباب وأصدقاء تابعوا أخباره باهتمام كبير، وأغدقوا عليه بالسؤال والدعاء، وكان المستشفى الذي تلقى به علاجه الأولي لا يخلو من الزائرين، وهاتفه لا يتوقف عن الرنين للاطمئنان على صحته.. وبعد وفاته -رحمه الله- استمر العزاء لمدة 9 أيام، وسط ذهول عائلته من حجم المحبة والمودة التي زرعها عبر سنوات حياته، وكأنه يطبق قول الشاعر: «ازرع جميلاً ولو في غير موضعه ما خاب قط جميل أينما زرع»؛ فحصد حبًّا وشوقاً ودموعاً طاهرة بكت رحيله، وأيادي لم تتوقف عن الارتفاع تطلب من الله الرحمة والمغفرة والجنة له.. فجزاهم الله كل خير، ولا أراهم مكروهاً بإذن الله.
وكافأه الله سبحانه بعد موته بإخوة يراعون الله في أبنائه، ويحتوون ألمهم، ويشدون من أزرهم، وقفوا بجانبهم وقفة الأبطال الكرام، ولن نوفيهم حقهم مهما بذلنا من المعروف.
ختاماً.. مصابنا أليم، وخسارتنا فادحة، ولكن يبقى عزاؤنا الذكرى العطرة التي شرفنا بها - رحمه الله -.
نسأل الله تعالى أن يكون ما أصابه في الدنيا طهوراً ونوراً وذنباً مغفوراً.. وأن يجعل ما قام به لدينه ووطنه وأمته في ميزان حسناته يوم القيامة. رحم الله والدي عصام الخميس، وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا ومحبيه الصبر والسلوان. لن أقول وداعاً بل إلى اللقاء في جنان الخلد إن شاء الله.