لاشك أن الإمام الشافعي استطاع بقصائده أن يعبر عن أوضاع عدة، وعن حالات وأمزجة نفسية، وعن علاقات وأشياء كثيرة ربطت بين أشعاره والناس في شتّى العصور والأزمان والأمكنة..
قصيدته في السفر، والأثر الذي يتحقق من السفر، وحاجة الإنسان إلى السفر، قصيدة لا نلبث أن نعود إليها، نُرددها، نُطالع أبياتها، نتأملها، نُعيد النظر في شأن معانيها:
سافر تجد عوضـاً عمن تفارقه
وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب
والأسدُ لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمةً
لملّها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقي في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هـذا عـز مطلبه
وإن تغرب ذلك عز كالذهب
يقول أبو منصور الثعالبي في كتابه اللطائف والظرائف في الخبر: سافروا تغنموا وتصحوا. وورد: ابن آدم جدد سفراً أجدد لك رزقاً. قال ابن المعتز: أشقى من المسافر إلى الأمل من قعد في الناس عن العمل.
جاء في المبهج للثعالبي: من آثر السفر على القعود, فلا يبعد أن يعود مروق العود. وقيل: ربما أسفر السفر عن النظر, وتعذر في الوطن الوطر.
وجاء في المحاسن والمساوئ للبيهقي: اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تكبوا مالا غنمتم عقلا كثيرا. مدح أعرابي رجلا فقال: خرّجته الغربة ودربته التجربة وضرسته النوائب. وقيل لأحدهم: ما العيش؟ فقال: دوران البلدان ولقاء الإخوان. وجاء في كتاب اللطائف والظرائف لأبي نصر المقدسي: ليس بينك وبين بلدك نسب, فخير البلاد ما حملك وجملك.
وقيل: اهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك, وأوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أنسك.
ولو استرسلت في الإشارة إلى ما ورد في شأن السفر والغربة من خير ما انتهيت، والناس من حولنا يحاربون السفر ويقفون ضد الابتعاث مستندين إلى حجج ليست دائماً صائبة. كما وأن الكمال لله سبحانه، ومن ينشد السوء في الخارج لن يتوانى عن طلبه أو البحث عنه في الداخل. ذلك لأن العيب في الشخص لا في المكان الذي يُسافر إليه.
السفر يصنع الشخصية أو يساعد في صقلها، ويُكسب المسافر المغترب فرصة الاعتماد على الذات، والوقوف على مكان آخر ودروب جديدة وبشر مختلفين مما يمنح للذهن مساحة تدارس الأشخاص هناك وهناك تركيزاً على اختلاف السلوك وتفاوت الطبائع وتباين الأمزجة. وربما اختلاف الأطعمة والمشروبات وأسلوب تناولها.
السفر قد يحقق للمسافر عيشاً جديداً أفضل وثقافة أحرب وحرية مرتفع سقفها، وهو مما لا يجده في وطنه. قيل سابقاً:
الفقر في أوطاننا غربة والمال في الغربة أوطان
والأرض شيء كله واحد ويخلف الجيران جيران
فالذي يريده المسافر المغترب راحة البال وطيب المأكل والمشرب وحرية الفكر والدين والمعتقد، أشياء إن لم تتحقق في وطنه بحث عنها في مكان آخر إن لم تكن هجرة فسفر وسياحة.
قال في فتح الباري: «وأما عيسى فقيل سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض بسياحته». وفي المعجم الوسيط: «السِّيَاحة: التنقل من بلد إلى بلد طلباً للتنزه أو الاستطلاع والكشف. إذا فـ السياحة في اللغة هي مطلق الذهاب في الأرض للعبادة أو للتنزه أو الاستطلاع أو غير ذلك. وبالتالي فمن تحقق له السفر ودانت له السياحة لن يتأخر عن إمتاع ذاته قيد أنملة.
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443Twitter: @Hudafalmoajil