لعل المحرك الأساسي من وراء هذه المقالة هو حنين إلى ماضي الإدارة في المملكة (Nostalgia)، حيث كانت غالبية من يتولون الشأن العام يسعون وبعزيمة لا تعرف الكلل أو الملل لأداء ما كلفوا به بأمانة وشفافية يشهد لهم بها الجميع.
من هؤلاء القدوة من انتقل إلى رحمه الله كالشيخ الدكتور محمد عبده يماني والدكتور غازي عبدالرحمن القصيبى، ومنهم مازال ينعم بالصحة والعافية مستمراً في تلبية واجبهم نحو وطنهم وقيادته بصفة رسمية أو شخصية، بعزيمة وإصرار وحنكة ودراية بحجم المسئولية الملقاة على عاتقهم كصاحب السمو الملكي تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وصاحب المعالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة.
تميزت هذه النماذج أن جمعتهم ثلاث خصال كانت ديدنهم وما ميز أسلوب إداراتهم وهي أن المصلحة العامة فوق كل الاعتبارات، الحلم بحزم مع الرأفة وسياسة الباب المفتوح. فهم لا يقبلون البتة ومهما كانت المبررات التخلي عن أداء الأمانة التي أوكلت لهم بالشكل الذي يرضي الله وقيادة الوطن التي أولتهم ثقتها ويثمنون هذه الثقة ويقدرونها ويجعلونها نصب أعينهم في كل ما يقومون به من إنجازات على أرض الواقع. كذلك فهم نادراً ما يشاهدون غاضبين فقد منّ عليهم المولى بمقدرة عجيبة على الصبر والتحمل تحت أقصى الظروف، مسلحين بنعمة الحلم المنبثقة من قوة لا من ضعف، فكل من عرفهم أو احتك بهم يعرف محبتهم للعفو والسماح ليس من ضعف بل بقوة الحلم التي منحهم الله عزوجل، ومع حلمهم هذا فهو يتوقف عندما يمس الأمر ما اتمنوا عليه، فهم هنا فقط لا يعرفون مهادنة ويصححون الوضع بجرأة متناهية. مكاتبهم مشرعة لمن يريد أن يلتقي بهم ومع مشاغلهم فهم دائماً حريصون للالتقاء بجمهور الناس لمعرفة حاجاتهم ووجهات نظرهم ويسعون لخدمة الآخرين بكل وسعهم وكأن شعارهم الذي اختطوه لأنفسهم هو «ما عاش من عاش لنفسه». هذه النماذج لمدرسة الإدارة السعودية هي مفخرة لنا جميعاً قدمت الكثير من الدروس التي يصح أن تدرس في كليات الإدارة في المملكة كنماذج واقعية، حقيقة لشخصيات نجحت وبامتياز مما يجعلها قدوة لغيرها في إدارة الشأن العام.
الشيخ الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله ولد في مكة المكرمة عام 1359هـ الموافق 1940م وتوفي في جدة عام 1431هـ الموافق 2010م. حصل شهادته الجامعية الأولى من جامعة الملك سعود ( الرياض سابقاً)، في تخصص علم الأرض والكيمياء، ثم حصل على شهادات الماجستير والداكتورة في تخصص اقتصاديات المعادن من جامعة كورنيل بولاية نيويورك عام 1388هـ الموافق 1968م. شغل العديد من المناصب الحكومية كان أولها أستاذاً مساعداً في جامعة الرياض ووكيلاً لوزارة المعارف، ليرأس جامعة المؤسس (الملك عبدالعزيز) من الفترة بين 1392هـ وحتى 1395هـ الموافق 1972م وحتى 1975م. شغل منصب وزير الإعلام لمدة ثماني سنوات من الفترة بين 1395هـ إلى 1403هـ، الموافق 1975م إلى 1983م. تفرغ بعدها للعمل الخيري مع الشيخ صالح كامل ومحاضراً غير متفرغ لمادة اقتصاديات المعادن في جامعة الملك عبدالعزيز. انشغل في سنواته الأخيرة بقضايا مثل التعليم في البلاد الإسلامية والأقليات الإسلامية في العالم. ألف الكثير من الكتب في السنة النبوية وقدم العديد من البرامج الإسلامية لفضائية اقرأ. يقول عنه صديقه ورفيق دربه معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة في (خميسية الجاسر): إن الحديث عن يماني مهمة صعبة، لأنه عاش حياة عريضة، وكانت حياته لوطنه وللعمل العام وللناس الذين عمل معهم، كان كتاباً مفتوحاً يقرؤه كل الناس، وكأنه لمعرفتهم به له قصة مع كل امري منهم».
وقال عنه الدكتور هاشم عبده هاشم في نفس المناسبة» إن الدكتور اليماني كان قمة وقيمة أخلاقية وإنسانية وصاحب مبادئ.. كما قال عنه سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز عندما زار أسرته إثر وفاته.. وهي المزايا التي يعرفها فيه قادة هذه البلاد ويعظمونها في شخصيته.. ويدعون إلى التمثل بها وبه».
وتأكيدا لما قاله معالي الدكتور خوجة في حديث عنه رحمه الله وبأنه وكأن له قصة مع كل من مروا عليه في حياته، إليكم هذه القصة التي يرويها من شهد أحداثها وتدل بكل وضوح على الشخصية الإدارية الفذة التي كان يتمتع بها الشيخ الدكتور يماني رحمه الله، يقول الراوي في منتصف التسعينات الهجرية: كنت أرغب في الانتساب أنا وزميل لجامعة الملك عبدالعزيز، ولسبب ما لم نتمكن من السفر من المدينة المنورة حيث نقيم إلى مدينة جدة مقر التقديم إلا في آخر يوم لموعد قفل القبول للانتساب وكان يوم أربعاء، ووصلنا إلى بوابة الجامعة قبل صلاة العصر ليتم إعلامنا من قبل الحراسة على بوابة الجامعة بأن الجامعة أقفلت وبأنه قد فاتنا التقديم، وبعد حديث معهم اقترح علينا أحدهم الاتصال بمدير الجامعة والتي كان وقتها الشيخ الدكتور يماني، وحسبناه بداية أنه يمازحنا ليفاجئننا باتصاله الشخصي من تليفون بوابة الحراسة وأعطانا سماعة التليفون والتي كان على طرفها الآخر الشيخ الدكتور يماني رحمه الله وشرحنا له ظروفنا وبأننا مضطرون للعودة للمدينة المنورة حيث إننا لم نأخذ إجازة من أعمالنا وعلينا العودة، كان رده رحمه الله بأن طمأننا وقال «ضعوا ملفاتكم عند حارس بوابة الجامعة وسأحاول جهدي أن أحقق رغبتكم في الانتساب». تركنا ملفاتنا لدى حراسة بوابة الجامعة وعدنا للمدينة المنورة ونحن شبه متأكدين بأنه لن ينظر في طلبنا وبأن الأمر لا يعدو كونه مجاملة من قبله رحمه الله لتظهر أسماؤنا في الصحف اليومية من المقبولين في برنامج الانتساب بجامعة الملك عبدالعزيز.
فاجأنا رحمة الله عليه بأمرين الأول أن مدير الجامعة رقمه لدى حراسة الجامعة ولا يضع بينه وبين من يعمل معه حجاباً؛ فالكل يقوم بمهمته التي تكمل مهمة الآخر، الأمر الثاني أنه بالفعل أخذ موضوعنا بجدية ولم ينسه أو شغلته أمور أخرى عنه فهو يرى في نفسه بأنه قد أوكلت له أمانة وكان يرى بأن عليه أن يؤديها، نسأل الله له الرحمة والغفران وأن يجعل ما قدم من خير في ميزان حسناته، انتهت رواية الراوي، رواية تدل على معدن الشيخ الدكتور يماني والذي أصبح نادراً.
الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله شخصية لا يشق لها غبار في إدارته المميزة، شخصية أحبها الجميع، شخصية من النوع الذي لا ينسى بكرمه وحبه للخير وحزمه في إدارة كل ما أتؤمن عليه من الشأن العام. ولد رحمه الله في الأحساء عام 1359هـ الموافق 1940م وتوفي في الرياض عام 1431هـ الموافق 2010م. ومن المصادفة أنه والشيخ الدكتور يماني ولدا في نفس السنة وتوفيا كذلك في نفس السنة بفارق ثلاثة أشهر. تلقى الوزير والشاعر والأديب والسفير وهي ألقاب استحقها جميعاً وبجدارة تعليمه الجامعي بجامعة الرياض ثم حصل من جامعة جنوب كاليفورنيا على درجة الماجستير في العلاقات الدولية، والدكتوارة في نفس التخصص من جامعة لندن. كان أول عمل حكومي له محاضراً في كلية التجارة بجامعة الملك سعود، ثم عميداً لكلية العلوم الإدارية فمديراً للمؤسسة العام للسكك الحديدية، فوزيراًً للصحة، المياه والكهرباء، وسفيراً في كل من لندن والبحرين ثم كان آخر منصب حكومي تولاه رحمه الله هو وزارة العمل. تميز في كل المهام التي أوكلت له وكان الشأن العام والخدمة العمومية هي ما يسعده ويجد نفسه فيها، ومع كل مسئولياته التي يشهد الجميع بأنه أداها بجدارة، كان شاعراً وأديباً لامعاً وخطيباً مفوهاً لا يشق له غبار، ترك من خلفه مخزوناً ثقافياً يشهد له بالعبقرية والتميز. يروى ممن عمل تحت إدارته حينما كان سفيراً في لندن، بأنه كان يشعر الجميع بأن كل من في السفارة هم فريق واحد، لا فرق بين موظف سعودي وغيره، الجميع في نظره سواسية، الجد والاجتهاد كان معياره في تقييم الأشخاص، فيشد على يد المميز ويوجه المقصر بطريقة غير مباشرة تقبلها النفس لبذل المزيد. كان يسأل عن الغائب منهم والمريض ومن هو بحاجة لمساعدة ويقدم هذا كله بنفس سخية من ماله الخاص. إذا ولد لأحدهم طفلاً أرسل تهنئته مرفقة بهدية وباقة ورد، وإذا مرض أحدهم عاده، كان رحمه الله لا يمل في سعيه للخير فهو ما كان يشعره بالسعادة، رحمه الله وغفر له وتنازل عنه وجعل كل ما قدم في ميزان حسناته.
صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل مدرسة بكل ما تحمل كلمة مدرسة من معانٍ لكل من تشرف وعمل معه. يقطع العالم شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً حاملاً قضايا المملكة معه أينما حل. وهبه الله شخصية كارزمية، دبلوماسي بالفطرة (Naturally Born Diplomat)، تلقى تعليمه الثانوي في مدرسة لورنسفيل الثانوية بولاية نيوجرسي، ثم التحق بجامعة جورج تاون العريقة بالعاصمة الأمريكية واشنطن. حصل بعد ذلك على شهادة البكالوريس في الآداب، ولجهوده في التقارب والحوار بين الثقافات والأمم منحته العديد من جامعات العالم في شرق العالم وغربه شهادات دكتواره فخرية ويحاضر حالياً كمحاضر غير متفرغ في جامعة جورج تاون لطلبة الدراسات العليا في العلاقات الدولية. كان أول عمل حكومي باشره هو مستشاراً في الديوان الملكي ثم رئيسا للاستخبارات العامة من الفترة بين 1397هـ إلى 1401هـ الموافق 1977م إلى 2001م. عمل بعد ذلك سفيراً للمملكة في كل من لندن وواشنطن حتى عام 1427هـ الموافق 2007م. ما قام به في فترة العشر السنوات في العمل الدبلوماسي الرسمي والشخصي بعد تركه للاستخبارات عام 1401هـ الموافق 2001م لهو عمل يعجز عنه أكثر الدبلوماسيين احترافا. من موقعه الحالي كرئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، القضايا التي تهم المملكة دوماً في محور اهتماماته، تجده دوماً في كل المحافل متحدثاً محاورا الحجة بالحجة والرأي بالرأي.
خلال الأيام السعودية التي أقيمت في صيف 2005 في مدينة مانشستر البريطانية والتي رعاها وشارك في أدق فعاليتها عندما كان سفيراً للمملكة في لندن تقدم منه شخص بريطاني مطلقاً عبارات غاضبة مدعياً بأنه تعرض للظلم عندما كان يعمل في المملكة وذلك أمام جمع غفير من الصحفيين والجمهور البريطاني، فما كان من سموه وبحكمته المعهودة إلا طلب منه وأمام الجميع وبون سفير خادم الحرمين الشريفين بأنه يسعده أن يستلم شكواه وبأنه سوف يرفعها لجهة الاختصاص في المملكة، وكانت قضيته من القضايا التي يبث فيها ديوان المظالم، فما كان من البريطاني الذي كان هائجاً غاضباً إلى أن هدأ وتبدلت ملامح وجهه من الغضب إلى الرضا في برهة.
صاحب المعالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، عُرف من الجميع بأنه من الجيل الذي رأى في الخدمة العامة أمانة يجب أن تؤدى بالطريقة التي ترضي المولى جلت قدرته ثم ولاة الأمر ويشهد له الجميع بأنه أداها بتفوق. دكتور الكيمياء الذي حصل على شهادته الجامعية الأولى من جامعة الرياض، ليحصل بعدها على الدكتوارة في نفس التخصص من جامعة برمنغهام البريطانية عام 1390هـ الموافق 1970م. محاضراً في كلية التربية بمكة المكرمة في مادة الكيمياء كان أول عمل حكومي شغله، وعميداً لنفس الكلية ومشرفاً عاماً للجامعة.
انتقل بعدها ليعمل وكيلاً للشئون الإعلامية بوزارة الإعلام ومديراً عاماً لجهاز تلفزيون الخليج. انتقلت بعهدها خدمات معالية لمقام وزارة الخارجية ليعمل سفيراً للمملكة في كل من تركيا، روسيا، المملكة المغربية والجمهورية اللبنانية.
وفي 19 صفر 1430هـ صدر الأمر السامي بتعينه وزيراً للثقافة والإعلام. قدم خلال السنوات الثلاث لترؤسه وزارة الثقافة والإعلام العديد من الإنجازات، على المستوى الثقافي إقامة أيام ثقافية سعودية في العديد من دول العالم وأصبح معرض الرياض الدولي للكتاب احتفالاً ثقافياً في المملكة يضرب له الجمهور السعودي موعداً سنوياً مع فعاليته.
ومن الناحية الإعلامية شهدت الوزارة تطورات هائلة على الصعيدين البرامجي والتكنولوجي وكذلك في عدد القنوات التي تم إطلاقها. ونجح كذلك ومنذ الأيام الأولى من توليه الوزارة في إيجاد آلية لترقية الموظفين المجمدين لسنوات عديدة من شريحة المراتب العليا، وهي خطوة أعادت الأمل والبسمة لهذه الفئة من الموظفين المحبطين.
ومع سجله المميز في الخدمة العامة فقد استطاع من خلال شغفه بالشعر أن يصدر أحد عشر ديواناً شعرياً كان أولها ديوانه «حنانيك» وأخرها ديوانه «رحلة البدء والمنتهي».
يقول عنه الرحالة الإسلامي الشيخ العبودي أنه عندما زار روسيا والتي زارها عدة مرات من قبل أنه وجد اختلافاً جذرياً مع وجود الدكتور خوجه سفيراً للملكة لدى موسكو. لاحظ هذا الاختلاف بدءاً من المساحة التي خصصها معالية في مبنى السفارة لتقام عليها صلاة الجمعة مما أتاح الفرصة للكثير من المسلمين الذين يعملون في المنطقة القريبة من السفارة من تأدية الصلاة جماعة، مروراً بدعمه كممثل لخادم الحرمين الشريفين لقضايا المسلمين في الاتحاد الروسي. وما قدمه من سجل حافل في كل سفارات خادم الحرمين الشريفين التي عمل بها يشهد بها القاصي والداني.
همسة في آذان التكنوقراط (Technocrats)، الخبراء، والذين صرفت عليهم الدولة جزاها الله خيراً أمولاً طائلة في تعليمهم في أرقى جامعات العالم ليعودوا للمشاركة في تنمية بلادهم، بأن تكون مصالحهم الشخصية في أدنى اهتماماتهم وهم الذين يتولون القيادات الإدارية في المملكة أن يقتبسوا من سيرة هؤلاء النماذج قدوة لهم في إدارتهم ولا شك أنهم إن فعلوا ذلك سوف يحدثون تطوراً هائلاً في أداء العمل الإداري في بلادنا للأفضل ولما فيه مصلحة البلاد والعباد.
تبقى همسة أخيرة لسمو وزير التربية والتعليم الأمير فيصل بن عبدالله والمعروف عنه الاستجابة السريعة لكل مافيه الصالح العام بأن يتم إطلاق أسماء هذه النماذج المشرقة للإدارة السعودية على أسماء مدارس في المناطق التي ولدوا وترعرعوا فيها، ثلاث مدارس في منطقة مكة المكرمة تكريما للشيخ الدكتور محمد عبده يماني، ولصاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل ولمعالي الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجه، ومدرسة في منطقة الأحساء تكريماً للدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي.
(*) باحث إعلامي
Alfal1@ hotmail.com