حينما تعود الذاكرة بي إلى العقدين الأخيرين من القرن الفائت، أتذكّر كيف كان الشعراء الشباب يطرقون باب البيت وأفتح لهم باب القلب وباب النشر في الصحف أيضاً إذا ما وجدت بأي واحد منهم بوادر إبداعية، وحينما أخذت الدائرة الكوكبية تتسع لتشكِّل جيلاً جديداً يُقدِّم شعراً جديداً غير ما ألفت الذائقة التقليدية أحسست أن هذا الجيل بحاجة إلى قلم ناقد ينبثق من نفس الدائرة وقريب منها ويفهمها جيداً، ويتكلم (لغتها) الشعرية الجديدة، ومفرداتها الخاصة. ومن خلال متابعتي لهذه النهضة الشعرية الشبابية لفت نظري اسم جديد لا يكتب شعراً بقدر ما يحاول أن يتماس نثراً يقترب كثيراً من مفهوم النقد العفوي وكان هذا الاسم يلتمع بين آونة وأخرى في صفحة الصديق نايف الحربي المخصصة للشعر الشعبي فظننت في بدء الأمر أن هذا الاسم (مستعار) لأنني لم آلف مثل هذا الطرح قبلاً في الصفحات الشعبية، وذات جلسة كان يلتقي فيها الشعراء في بيتي سألت الصديق نايف الحربي عن الكاتب الذي يكتب في صفحته باسم خلف الحربي؟ وقلت له يا نايف أرجو أن لا يكون اسماً مستعاراً من خارج الساحة الشعبية فحاول نايف المراوغة لكي لا يكشف لمنافسيه عن هذا القلم الذي أخذ بالتألق شيئاً فشيئاً والذي يغرّد صاحبه خارج السرب ولكي لا يختطفه منه الآخرون، وحينما زدت على نايف إلحاحاً، همس لي شريطة أن لا أخبر أحداً أن هذا الذي اسمه خلف الحربي هو اسم حقيقي لشاب لم يتخرَّج من المرحلة الثانوية بعد، أي أنه أصغر كثيراً من كل شعراء الساحة الشعبية وهو لم يتعرَّف بعد على مشرفي الصفحات الشعبية ولا كذلك على شعراء الساحة أيضاً، حينها قلت للصديق نايف أرجو أن لا تكون (احتكارياً) أريد أن أتعرّف على هذا الشاب لأنني أرى فيه موهبة كتابية ساخرة ومتفرِّدة أيضاً وأرجو أن لا يغريه تحليق السرب لأنه سيضيع بين خفق الأجنحة وكنت أعني أن لا ينساق إلى القصيدة الشعبية لأن تفرّده الكتابي الساخر أهم من أن يكون شاعراً قد لا يواصل الطيران.
وبالفعل التقيت بالابن والصديق والزميل خلف الحربي الذي يكتب الآن في جريدة عكاظ وأصبح مثلما توقّعت فعلاً نجماً في عالم السخرية.
بالإضافة إلى أن الصديق خلف هو كاتب قصة أيضاً وشاعر شعبي ساخر وأصبح كاتباً يومياً اليوم يشار إليه بالبنان.
حقيقة لم أكن أتوقّع أن يأخذني التداعي إلى كل هذا الاستطراد ولكن هذا حدث بفعل سلطة الكتابة التي تسحب الكاتب إلى ما لم يكن يفكر فيه أصلاً، أما الذي كنت أفكر فيه وفي هذه الزاوية فهو إيراد مداعبات شعرية ساخرة بيني وبين خلف، فإلى المقالة القادمة.