الكاتب الأمكن كالمصوّر البارع, يرى الشواخص من عدة زوايا, ثم يلتقطها من الزاوية الأجمل, إن كان محباً للجمال, أو من الزاوية الأشمل إن كان محباً للتقصي, ومكمن الصعوبة في التعدد والتعملق, فبعض الواجهات الشخصية كالحلقات المفرغة, وهنا يكون الملتقط كـ»خزاش».
ذلك بعض إحساسي، وأنا أغامر بالاقتراب من أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري.. وهذا اسم مخلوط، يسميه أهل المنظمات بـ»الاسم الحركي»، ويسميه أهل الفن بـ»الاسم الفني».
أما اسمه الحقيقي فهو [محمد بن عمر بن عقيل] من أهل «شقراء»، وفد إلى الرياض عام 1381هـ طلباً للدراسة والوظيفة، والإشكالية ليست في أطوار حياته الغرائبية والمثيرة، ولكنها في تلافيف العلاقة الشخصية بيني وبينه، وهي علاقة يحسبها الناس علاقة أدب وثقافة وحسب، هذه العلاقة التي بلغت في بعض مراحلها حد الخلطة، كشفت لي جوانب من حياته الخاصة والعامة، مما يستحق التقصي والتسجيل، فأبو عبدالرحمن تجده حيث تطلبه، ويثير إعجابك حيث تجده.
يمارس الشفافية بأقصى معانيها، ويمارس البوح، وكأنه زفرات مصدور، لا يخفي الخطرات، فضلاً عن الممارسات، ولقد استغل خصومه تلك الثنيات، فأوغلوا في توهين عزماته، وحديثه عن خصوصياته، ليست منْ تعالي الذات، ولا من تزكيتها، وإنما هو أدب اعتراف نادم على فوات الفرص، التي يظنها طرقت بابه، ولم يشرع لها الطريق، وحياته حافلة بكل شيء، بالجد والهزل والأوبة واللمم والصدام والوئام، وهي حياة لاشية فيها، ولكنها من خلال رؤيته المأخوذة بالجد تارة وبالمثالية تارة أخرى، مظنه كل شيء، ولأنه ذوَّاقة، كلما حل في مشهد معرفي، أطال الوقوف فيه، وشارك ذويه الدرس والتأليف، ثم ولاِّه الأدبار، بعدما أضاع شيئاً من الجهد والوقت فيما لا يليق بمثله، ولقد خسرت المشاهد الفكرية والأدبية والعلمية ما لو حفظه لكان فيه خَيْر كثير، وهو قد أبدى ندمه على ما أضاعه من جهد، وقد لا يوافقنا حين نَعُدُّ اشتغاله بـ[الشعر العامي] من الجهد المضاع، ولك أن تتصور كم احتاج من الجهد والوقت لإصدار سلسلة «ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد» وإسهامة في إصدار ديوان [التميمي]، وكم أضاع من الجهد والوقت لإصداره سلسلة كتب عن الأنساب والأسر والقبائل، وتفسير [البَسْملة] ثم النكول عن كل ذلك، ثم انظر إلى كتبه الجادة العازمة كـ[جدليات العقل] و [الذخيرة في المصنفات الصغيرة] و [القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز]، وما كتبه عن اللغة العربية وأساطينها، وعن الشعر العربي وتحولاته، وما كتبه عن الظاهرية وإمامها [إبي محمد بن حزم الظاهري]، وما كتبه عن الفلسفة والفلاسفة والإلحاد والملاحدة، مثل [هكذا علمني ورد زورث] و [لن تلحد] وحواراته مع [القصيمي] وماتضمنته سلسلة [الفنون الصغرى] وكتب التراث التي حققها، لقد كان في نيتي أن أكتب «هكذا علمني الظاهري» وهي رغبة قائمة، ومعرفتي المبكرة به، جعلتني أخبر دواخله، وأعرف رغبته في التأصيل، وامتعاضه من أغيلمة يُخرجونه عن طوره، فلا يجد بداً من القسوة والتعالي، حتى إذا توغل في شجبهم، تهافتوا عليه، والكثرة تغلب الشجاعة، كما يقولون، لقد تعلمت منه استكمال علوم الآلة من نحو وصرف وأصول تلك المعارف، وقواعد إملاء وعلامات ترقيم، واستقصاء لكل معلومة من مظانِّها. وعلمني أن الكتاب للناقد كالسلاح للمقاتل، وأن الغلبة لمن يتمترس خلف كتبه ومكتبته، وعلمني أن القراءة لا ترسخ إلا بالاستثمار، وأن المعلومة لا يوهنها إلا الشك [الديكارتي]، وأن الظهرية زلزلة للمسلمات، وأن «ابن تيمية» محصلة واعية لـ»ابن حزم» و»ابن عبدالبر»، وأشياء كثيرة، لو قلتها لارتاب المبطلون، ولمَّا أزل ألم به، وبما كتب وما يكتب، وأزوره في دارته في فترات متباعدة، نظراً لكثرة مشاغله وأسفاره، وضعف جسمه، وتبكير شيخوخته وعوارض الأمراض التي ألمت به، وكان آخر زيارة لي يوم أن كرَّم العلامة «ابن عقيل» رحمه الله، لقد شرق بالفرحة، حتى كادت تشرق به، على حد قول المتنبي: [شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي] وتلك مبالغة ممجوجة في مقام الرثاء.
وفوق هذا فأبو عبدالرحمن شاعر، لم يسّلم له المشهد بالشاعرية، و لم يكن همه أن يكون شاعراً، بل لم يرق له أن يُعْرف شاعراً، على شاكلة [العقاد] و [الرافعي] وآخرين يقرضون الشعر ثم يوارونه، والعالم والمفكر والتراثي، لا يريدون أن تطغى صفة الشاعرية على أحد منهم على حد:
[ولولا الشعر بالعلماء يزري.. لكنت اليوم أشعر من لبيد].
ومع هذا، فقد تعجل بإصدار مجموعته الأولى «النغم الذي أحببت» وندم ندامة الكسعي على ذلك، إذ قال قبل عقدين [وأنا نادم عليه غاية الندم]، وندمه يشبه إلى حد كبير ندم [غازي القصيبي] رحمه الله على إصداره ديوان [أنت الرياض].
غير أنه في ديوانه الثاني [معادلات في خرائط الأطلس] أعاد ثقة المتلقي، وأثبت أنه شاعر أمكن، واسم الديوان عنوان قصيدة عصماء، لو لم يكن له غيرها لكفته، ولكنها ضاعت بين مقولتي:-
[ لا نفقه كثيراً مما تقول ] للحداثيين، و[نسأل الله العافية] للتراثيين. ولأنها جواده الذي يراهن عليه، فقد ألح في تكريسها، إذ نشرها مشروحة، ثم ضمنها كتابه [ القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز ]، وقد تجعله بتميزها من [شعراء الواحدة]، وهم الشعراء الذين خلدتهم قصيدة واحدة. ومحورها جلدٌ لشاعر العصر شاعر الهروب والنَّهْدين والمنفى والليل والمساء والقمر. ولا أستبعد أن تكون بإزاء قصيدة اليباب [لاليوت] والطلاسم لأبي ماضي، ومومسة [السياب] وبحيرة [المهندس]، وأطلال [ناجي]، وافعوان [نازك] فهو أراد لها أن تكون شاردة سعودية، كما قال في مقالة التحَّسر [ألم ترني ظاهريا].
ومثلما كان أبو عبدالرحمن معجباً كل الإعجاب بهذه القصيدة، حتى جعلها عنواناً لديوانه الثاني، فإنه معجب أشد الإعجاب بقصة كتبها تحت عنوان «الذقن المزيف»، وأذكر أنني قرأتها أكثر من مرة، وأشعتها بين الناس، لأنها تجسد واقعاً متنامياً، يعضد اللعب السياسية، و»ابن عقيل» المتعدد المواهب والقدرات لا يُسلِّم لنفسه بشيء، فهو يقول عن شاعريته: [بل أنا إلى هذه اللحظة أشكو إلى الله ضيق العطن في شاعريتي]، وقُدُرَاتُ أبي عبدالرحمن المتعددة لا تدعه يصبر على فن واحد، إذ كلما أوجس في نفسه رغبة للمبارحة، ترك الفن وأهله، وكأنه لم يتلبث عندهم طويلاً، وقد لا يعود إليه، وإذا عاد فإنما هي للملمة ما ترك من قبل.
وهو قد كتب السيرة الذاتية، كما كتب الشعر، ونشر تباريحه مفرقة ومجموعة، وانتقى منها «تباريح التباريح» و «شيء من التباريح» وممن درسها الدكتور [عبدالله الحيدري] في «إضاءات» والحيدري متخصص في نقد السرديات ورسالته للماجستير عن السيرة الذاتية في الأدب السعودي، ولقد سعدت بالاشتراك في مناقشتها، وكانت لي اهتمامات متأخرة في الإبداع السردي، وذلك حين توسعت في دراسة الإبداع السردي ونقده، فلقد أحسست أننا أسارى لسلطان الشعر ردحاً من الزمن، وقد نشر لي في [ملحق الأربعاء] زهاء أربعين حلقة عن النقد البنيوي للرواية العربية، ورد علي بعنف الأستاذ [عابدخازندار] وآخرون وبادلتهم التحية بمثلها، وما زادني ذلك إلا ثقة وإصراراً، فالتحامل لا يغني من الحق شيئاً.
وأبو عبدالرحمن، إضافة إلى كل ماسبق، يعشق الأفذاذ من الموسوعيين والفلاسفة والمفكرين، ويجتهد في إعادتهم إلى الذاكرة، فهو حين استهام بـ [أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي الأشعري] من خلال كتابه (الفنون) الذي نيف على الأربع مئة جزء، ولم يطبع منه سوى جزأين، حاول محاكاته في إصدار سلسلة من الكتب تحت عنوان [الفنون الصغرى] حيث أصدر خمسة أجزاء، هي مجموعة مقالات مختارة، وقد عدل عن عنوان كان ينوي مواصلة الكتابة من خلاله، وهو [ساحة الملوك] حتى لقد أدرج بعض موضوعاته في بعض أجزاء سلسلة [الفنون الصغرى].
عيب أبي عبدالرحمن اهتياجه المدجج بالمعرفة، وغضباته المضرية، ثم إنابته النادمة. وعيبنا تخذيل أعلامنا، حتى إذا قضوا نحبهم أجهشنا بالثناء والتفجع.
ذلكم هو أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، مؤمن قوي الإيمان، سلفي ناصع السلفية، عاطفي متأجج العاطفة، ذواق كالمرآة في كف الأشل، عنيف أوَّاب، سريع الغضب، سريع الندم، ولما أزل أمني نفسي بفلي تراثه، وتقريبه إلى من يود استكناهه.. سلمت براجمنا جميعاً من الأوخاز.