هناك سياق لغوي، يعرفه الأسلوبيون، وسياق تاريخي، يستكنهه فلاسفة التاريخ، وقراءة النص، أو تعقب الحدث خارج سياقه جناية لاتغتفر، يقع فيها الجهلة، ويتعمدها المتربصون، وبخاصة حين يكون النازع من السياق يبحث عن الدلالة أو عن دواعي النزوع الفعلي، ولقد يكون الفصل عن غير قصد، وهنا يقع الخطأ دون الخطيئة.
فالقاصد للتقويم، أو الاستكناه مطالب بتحقيق العدالة واستصحابها، وإذا نَكَّبَ عنها جهلاً أو قصداً، وقعت الواقعة. والرسول -صلى الله عليه وسلم- غضب من فعل الجهلة، حين أفتوا الموجوء بالاغتسال، ولما اغتسل مات، حيث وصفهم بالقتلة، ونبه إلى أن دواء العي السؤال. وماذا تكون المواقف لو أن كل مجاهد أو محرِّضٍ على القتال، نُزِع تحريضه أو فعله من سياقه، ثم وصف بالعنف والدموية، مع أن الممارسة أو التحريض لو أخذ أحدهما أو كلاهما بسياقه، لوصف الفعل والقول بالمشروعية والمعقولية. فالمفكر والعالم والداعية والمصلح والزعيم، حين لا يجد أحدهم بداً من خوض الحرب أو التحريض عليه، لإنقاذ كرامة، أو تحقيق حرية، أو حفظ حقوق، ثم يجعل خطابه سلمياً استسلامياً، فإنه يعد ممن يولون الأدبار، ويفرون من الزحف. والفرار من الزحف كبيرة من كبائر الذنوب، وإذ يكون من أولويات الخطاب الإسلامي الجنوحُ إلى السلام، فإن خيار الحرب والإعداد له محكومان بموقف الطرف الآخر، ومن عيوب المشاهد العالمية كلها بعد كارثة [البرجين] نزوع الجميع إلى السلم إرضاء لغطرسة الجريح، دون تقويم صحيح للظروف التي يجب أن تحكم المواقف، وهذا النزوع المدان، لا يفرق بين تقلب الأوضاع، وتباين الأحوال، وحتمية أن يكون لكل مقام مقال، {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذين لَمْ يُقَاتلُوكُمْ فِي الدَّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواَ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَّ يُحِبُّ المُقْسطِيِنَ} واستلال الخطابات من سياقاتها، لكي توافق الروح الاستسلامية أو العدوانية، يُفقدها شطراً من حقها، ذلك أن لكل وضع خطابه، ولايتحقق العدل والإنصاف بالتخلي عن السياق. لقد ظلم علماء أجلاء، ومصلحون نبلاء، وشنع عليهم، لأنهم أطالوا الحديث عن الجهاد، وحرضوا عليه، ولو أنصف الشامتون، لنظروا إلى عدوهم اللدود، الذي لا يألو جهداً في عسكرة نفسه، ومخادعة خصمه، وتَحَيُّنِ الفرص ليتقحم على الآمنين المسالمين أرضهم، ويتسلق عليهم أسوارهم، ويقتل أبناءهم، ويستذل نساءهم، ويصادر أبسط حقوقهم {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهٌ عَنِ الَّذَينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواَ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ} هناك أمر وهنا نهي، لأن المقامات فرضت المواقف، فالمؤمن يقاتل المؤمن الباغي، حتى يفيء إلى أمر الله، ولا يقاتل الكافر المسالم [وَإنْ أَحٌَ منَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ]. والقارئ لأبواب الجهاد في الفقه الإسلامي، يراه في حالةِ فرض عين، وفي حالةٍ فرض كفاية، فيما يراه في أحوال كثيرة غير مشروع بحق الجموع أو بحق الأفراد، ومن تصور الجهاد مشروعاً في كل حال، أو محظوراً في كل حال، فقد جار في الحكم، وخالف مقاصد الإسلام. ومن الاندفاعات العاطفية التي يقع فيها العامة والخاصة مانراه، ونسمعه من تصديات لبعض الظواهر المفهومة على غير مراد المشرع، فـ[التكفير] و[الجهاد] من مصطلحات الإسلام الرئيسة، وحين فُهمت على غير مقاصد الإسلام، تصدى لها البعض على أنها من المحدثات المحظورة دون تفصيل، ولو أخذت بحقها لما كانت مثيرة، ويقال مثل ذلك عما جدَّ من مصطلحات شرقية أو غربية في مختلف الفنون والمعارف.
ومثلما يقع الخطأ في ابتسار الخطابات، يقع في ابتسار العبارات، فكم من سياق لغوي، أُعطي دلالة مخالفة للجملة أو العبارة، حين تنزع من سياقها، فالله سبحانه وتعالى يقول: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ) وهذه جملة تامة، لأنها نهي ومنهي عنه وفعل وفاعل ومفعول، ولكنها حين نزعت من سياقها كانت دلالتها أشد نقصاً من الجملة الناقصة، في غير هذا السياق، ومن عبث الشعوبي الماجن قوله: [ما قال ربك ويل للأولى سكروا: وإنما قال ويل للمصلينا] ولقد يتعمد بعض النقاد الابتسار، لحاجة في نفسه، ولو أنصف المختصمون وصدقوا لحسمت المشاكل في مهدها، ولكن الأهواء تبلغ حدَّ التأليه.
وإذ يكون هناك سياق في الخطاب، وسياق في اللغة، يكون هناك سياق في الظروف والأحوال والأحداث ولهذا فُرِّق بين الأُشَيْمط الزاني ومن دونه والعائل المستكبر ومن فوقه. ولنا أن ننظر إلى سائر المعارك، وبخاصة المعارك الفكرية والأدبية، فكم من ناقد فُرض عليه العنف وحِدَّة النبرة، وكم من مؤرخ للمعارك النقدية وصف ناقداً بالعنف، ولو أخذه بسياقه، ونظر إلى لغة مناوئيه، لوجد لعنفه ما يبرره، ذلك أن البعض يجيد لغة الاستفزاز والإثارة، ولربما يعمد إليها الرياضي في الملعب والمحامي في المحكمة، لإثارة الخصم، وحمله على فقد توازنه. فالرياضي المنفعل يفقد فنياته، وقد يعتدي على خصمه، والخصم الغاضب يفقد توازنه، وتنفلت منه كلمات مُدينة، وفقد الفنيّات أوالتوازن يقلل من فرص النجاح، ولو ليم أحدهما دون استحضار لعبة الإثارة والاستفزاز لكان في ذلك ظلم له، ولاشك أن امتلاك المشاعر، وتفويت الفرصة على المتحايل من بوادر الذكاء، ولكن مثل هذه المواقف قد تُفقد الإنسان غير الحصيف وغير المجرب توازنه، وكم نرى ونسمع خصوماً غير شرفاء يتعمدون عزل الخطابات من أجوائها، وتمكين الخصوم من توهينها، لأنها بمجرد عزلها من أجوائها تكون فظنة الإدانة. ولقد كنت واحداً من ضحايا هذه المكيدة، وكم قلت لخصومي: «اقرؤوا ما تحت السطور، ولكن لا تقوِّلوني ما لم أقل. وقضية احترام السياق، والأخذ به يمتد إلى كل مجالات الحياة، والنقد المنصف من يضع للسياق احترامه، ولا يظلم الخصوم شيئاً بفصل القضايا من سياقاتها، وأية قراءة لا تستحضر السياقات والظروف والملابسات تعد قراءة مضلِّلة وجائرة، ولقد تكون مثل هذه القراءات على كل المستويات هي سيدة الموقف، وذلك من فقد الأمانة والمصداقية، وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فقد الأمانة، واستبعد أن يكذب المؤمن، فيما لم يستبعد جبنه أو بخله، ولن يسود الوئام في مجتمع يخاتل بعضه بعضًا، ولو أنصف الناس لاستراح القاضي.