لا زلت أذكر عندما حضرت أنا وزميل لي النشاط الثقافي في الجنادرية، وكان زميلي وهو مفكر كبير بكل المعايير ويرأس قسم في جامعة الملك سعود، وكنت أنا آنذاك وكيل أكاديمي في كلية اللغات والترجمة. كنا عائدين من كلية المجتمع حيث كنا نمارس تدريس اللغة الإنجليزية في المساء...
...وعندما دخلنا بهو قاعات المحاضرات قال لي زميلي تعال لأعرّفك على بعض عظماء الكتابة لدينا في صحفنا النسخ الدولية، وهو كاتب عربي بحقيقة مترجم رديء من اللغة الفرنسية. جلسنا مع كاتبنا النحرير ببدلته الفرنسية، وكرافتته الإيطالية، ونحن نعتمر الزي الوطني الذي نفتخر به لفظا فقط، لا سيما والمهرجان مهرجان للتراث والثقافة السعودين. وحقيقة لم تكن قيافة الرجل مميزة، ولا شكله أو حضوره مؤثرا.
بادرناه التحية فأخذ يسهب بلغة المستعرض، وكأنه يخالنا تلاميذ أمامه، في فضل الفلسفة الفرنسية على العالم، وتطرق لبعض فلاسفة ما بعد الحداثة ولسوء حظه فزميلي كان يعرف الفيلسوف والناقد موضوع الكلام عن ظهر قلب، ويفهمه فهمه لنفسه، فأسقط في يد الضيف وتحوى الأستاذ إلى تلميذ، فخزرني صاحبي بعينه مبتسما ومتعجبا لخلط صاحبنا في المفاهيم، ولعكة في التعبير عن الإطروحات. أما أنا فوجدت نفسي مظطرا لمقاطعة عظمته قائلا إن الألمان وليس الفرنسيين هم أصحاب الفضل على العالم في الفلسفة، وأن فيلسوفه ذاته تأثر بالفلسفة الوجودية الألمانية وأنه تعلم في جامعة ألمانية، ثم طلب مني التفصيل وأخذ ينتقل من سؤال لتساؤل ومن اعتراض استفهامي لتعليق إبهامي. تركناه ونحن نلوي لقاعة المحاضرات التي كان صاحبنا، مع جهله، يعتقد أنه فوق مستواها، فقلت لصاحبي أنا لا ألوم هذا الكاتب النحرير لعربدته علينا لأننا بدعوتنا له وأمثاله والإفراط في إكرامهم نشعرهم باحتقارهم لنا، لأنهم يعتقدون أننا شعب جاهل وأننا دعوناهم لحاجتنا لدروسهم وللتصوير معهم، لا سيما وعندما يستقبلهم بعض المسئولين عن الجانب الثقافي الذي لا زالوا يعتقدون أن الثقافة مشتقة من ثقف أي أوقف، أو وقف وليس من تثقف أي اشتغل بالثقافة.
دخلنا للقاعة وانتقينا ركنا نائياً لأننا ما زلنا نجتر الحيث ذاته، ونتناقش حول حقيقة المثقف وصورته، وكيف أن أمثال صاحبنا يدعون لمهرجاناتنا عاما بعد الآخر ويكرمون أيما كرم وهم لا يقدمون شيئا لا في حضورهم ولا في غيابهم. وبينما نحن في منتصف حديثا جاءنا عسكري برتبة صغيره وطلب منا الخروج أو الصعود لأعلى المدرج الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، وقال لنا هذا المكان مكان لضيوف المؤتمر، وبينما نحن نحاول أن نقنعه أننا أساتذة في الجامعة مر أحدهم وكان محاضراً في اللغة الروسية في كليتنا متجها لأماكن الضيوف، وبمجرد مشاهدته لنا قدم ورحب بي لأنه يعرفني في الكلية، فالتفت للعسكري ووضح له أنني وكيل للكلية، لكن العسكري أصرعلى رأيه وخاطب زميلنا ببدلته السوداء: أنت الله يحييك رح مع الضيوف أما أنتم فلا تحرجوني فلدي توجيهات، وهناك مكانكم. خرجنا من المؤتمر ولم ندخل قاعة ثقافية في هذا المؤتمر أو غيره لأننا لا نريد أن نقع في إحراج مماثل، وبما أن السعوديين من غير المحسوبين على لجان المؤتمر لا يدعون عادة له، فقد انقطعت صلتنا بها، واصبحنا نشاهد بريق الكرافتات تحت أضواء الكاميرات في التلفزيون فقط.
في اليوم التالي، وهذا ما أضاف الضغث على الإبالة، والمصيبة التي هانت عند غيرها، أن صحيفة سعودية كبرى، وفي مكان متميز من الصفحة الثقافية وبإشادة خاصة من محرر الصحفة بالكاتب الضيف الكبير، نشرت مقالا لصاحبنا عنوانه «فضل الألمان على الفلسفة العالمية»، ونشر على عددين متتالين يتضمن ما سمعه منا في قبو الصالة، وصعقت عند مشاهدة المقال ولا زالت قهقهة زميلي ترن في أذني حتى يومنا هذا، وقال لي: كلهم على هذه الشاكلة، ومن ذلك الوقت وأنا أرقب المشهد الثقافي لدينا بعد عقد ونصف ولم يتغير شيئا، لا زلنا نحتقر السمين لدينا للغث المجلوب من خارج حدودنا.
تحدثنا كثيرا حول هذا الموضوع وكان الجميع متفق أن معظم المناشط الثقافية لدينا يشرف عليها أناس متوسطي الثقافة، حتى لا أسيء لهم، والمراكز الثقافية في بلادنا بما في ذلك بعض جوائزنا، يتولاها أناس هم أبعد ما يكونون عن فهمها أو مجال تخصصها، وهم ينظرون لها كنوع من الوجاهة، والفائدة المادية، ولذلك فنحن نمنحها لأناس لا يستحقونها، ولدينا من هم أفضل منهم بمراحل يبقون في طي الجهل أو التجاهل. ونحن وللأسف بدلاً من أن نوظف مهرجاناتنا للتعريف بمثقفينا وتراثنا الثقافي، نلمع من نستقدمهم من الخارج، والبعض يعتقد أن هذه المهرجانات هي مجرد واجهات دعاية للبلاد. ونحن عندما نتعامل مع المواضيع الثقافية بهذه الطريقة فالآخرون يفهمون ما نقصده، وينظرون لذلك على أنه جهل منا، وليس إكراما لهم. والحقيقة أننا نجد التفهم والتكريم في مؤتمرات نشارك فيها في الخارج أكثر من الداخل، لأن ما يحكم المشاركة هي الأبحاث و الأوراق المقدمة وليست الأسماء والجنسيات.
وهنا يجب أن نفهم أنه لأي شخصية إعلامية سياسية أو ثقافية أو فنية شخصيتنان أحدهما إعلامية اسطورية والأخرى واقعية، وهذه حقيقة أدركتها أجهزة الإعلام في كل مكان ومنذ زمن بعيد، والإعلام هو من يخلق صورة الأمة الحضارية، والإعلام السعودي المرئي أو المطبوع أو إليكتروني، عندما يكرر ظهور شخصيات غير سعودية بشكل مستمر فهو يوجه رسالتين إعلاميتين قويتين: الأولى هي الإقرار بأهمية من يستضيفهم أو من يمنحهم حيزا من الإعلام، وهو هنا يمارس عملية تلميع لهم، أما الثانية وهي الأخطر، هو أنه يقر بالحاجة لهم بسبب نقص الكوادر الوطنية المؤهلة لدينا، وهذا أخطر من سابقة. فلكل دولة إعلامها ورجالها، وكما يقال «ثوب العارية لا يستر». وسبق واجتبينا كتاب وأغدقنا عليهم وهم أول من تحول ضدنا لمجرد وقف دعمنا لهم.
لا زال وضعنا لم يتقدم كثيرا ولا زالت الفلاشات تسلط على غير السعودي، ولا زالت قنواتنا الحكومية تستضيف ضيوفا من الخارج بعضهم لا يضيف لها شيئا، وبعضهم من جامعات غير معروفة لم نسمع بها من قبل، وعندما يستضيفون السعودي فهو لتفسير الأحلام، أو لاستخراج الجن، أو للرقيا، وما شابه ذلك من مواضيع غير علمية وغير ثقافية. ولم تسلم من ذلك قناتنا الثقافية التي استبشر بها المثقفون خيرا، فبرامجها تقدمها نساء وافدات ليس على البلاد فقط ولكن عل الثقافة ذاتها، و لايملكن أي إمكانيات ثقافية، ولذلك قلما تشاهد فيها برنامجا ثقافيا جديا، فلا المعد ولا المقدم يمتلك أدوات الثقافة ومفاهيمها.
وفي الحقيقة بدأت أتفهم لماذا يحلق بعض مثقفينا شاربه ولحيته، فحلق الشارب والوجه أصبح تشبها بالمثقفين الذي تجتبيهم وسائل أعلامنا. ونحن هنا لم نتعلم من دول مجاورة لنا، لها السبق في مجالات الثقافة والإعلام، حيث يمنح مثقفيها فرصا متكافئة للظهور الثقافي ولذلك ظهرت فيها، على صغرها وقلة سكانها، طبقة ثقافية محلية مؤثرة جداً، أما نحن بكل ما نملك من إمكانيات علمية وثقافية مهولة لا زلنا نتسول الثقافة في مؤتمراتنا من الخارج. فلا بد من تدخل من أعلى سلطات القرار لدينا في الشأن الثقافي في تصحيح هذا الوضع المعيب، ولإعطاء القوس لباريها من مثقفين ومتخصصين جديرين بصورة التطور الذي شهدته المملكة، فلدينا مخزون ثقافيه تشكل فيه الجنادرية نقطة في بحر منه، ولكنها تبقي بعيدا أو فلنقل مبعدة عن الواجهة، وعيب علينا ألا نشجع الثقافة في الداخل ونستوردها من الخارج.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif