التضارب الصارخ بين ما يقوله شهود العيان وما تقوله السلطات السورية حول الأحداث الجارية منذ 11 شهراً يمثل واحداً من أكثر المظاهر إثارة للعجب، ليس لأنه صارخ فحسب، بل لأنه يكشف عن مستوى جارح من السطحية والسذاجة.
وهو أمر يؤكد بالدليل المشهود أن الإعلام الرسمي السوري فاشل في الظروف العادية، وفاشل عندما تعزُّ الحاجة إليه. وهو إذ يعجز عن أن يقنع أحداً بصدق رواياته المفبركة فإنه يزيد الطين بلة على أصحابه بدلاً من أن يساعدهم.
على سبيل المثال: يقول الإعلام الرسمي إن دبابات النظام تدخل المدن التي وقعت فيها تظاهرات؛ لأنه تلقى دعوات من السكان لتخليصهم من المسلحين الذين يرتكبون الجرائم ضد المواطنين.
هناك إذن مسلحون يعتدون على الناس، والسلطة تقول إنها ذاهبة بدباباتها لإنقاذهم.
حسناً. دعونا نصدق.
السؤال الآن: هل وُجدت حركة مسلحة واحدة على وجه الأرض تعادي الدولة وتعادي السكان في آن واحد؟ المنطق يقول إن هذا النوع من الحركات إما أن تهاجم السكان لتناصر الدولة، وإما أنها تناصر السكان لتهاجم الدولة.
واحدة من اثنين، ولا ثالث لهما.. إلا في سوريا الدجل. فالمسلحون هناك يعادون الدولة ويعادون المواطنين! فما أعجبهم، وما أغربهم من مسلحين!
والسلطات السورية لا تقول لماذا يذهب المسلحون ليعتدوا على المواطنين في المدن والبلدات التي تخرج فيها تظاهرات ضد الدولة فقط؟
ولا تقول كيف اجتمعت محاسن المصادفات بين التظاهرات وظهور المسلحين.
وبينما تقول السلطات إن دباباتها تلاحق المسلحين فإنها لا تقول لماذا يقوم الجنود بالاعتداء على منازل المواطنين؟ ولماذا يطلق الجنود النار حتى على الماشية، ولماذا ينهبون المنازل، ولماذا يحرقون بعضها؟
والسلطات لا تقول كيف أنها - وهي دولة مخابرات من الطراز الأول - سمحت بظهور كل هذه الأعداد من المسلحين دفعة واحدة؟ كما أنها لا تقدّم تفسيراً حول الطريقة التي يتنقل بها هؤلاء المسلحون بينما قوات الأمن والجيش تسيطر على الطرق والممرات في البلاد، وتنشر وحدات التفتيش في كل مكان.
وإذا كان المسلحون متسللين فإنها لا تقول من أين تسللوا، ومن هي الدولة التي زوِّدهم بالأسلحة.
وعندما تجتاح القوات الأمنية بلدات مثل درعا أو حمص أو الزبداني لتطهرها من المسلحين فإن السلطات لا تقول كيف يعود المسلحون للظهور فقط كلما تجددت التظاهرات؟
وإذا كان هناك مسلحون فلماذا تقطع السلطات خدمات الماء والكهرباء والهاتف عن المواطنين؟ هل تحرم المسلحين من هذه الخدمات الأساسية أم أنها تحرم المواطنين الآمنين ممن تظاهروا وممن لا يتظاهرون؟
والمواطنون الذين جاءت القوات المسلحة لإنقاذهم لماذا يهربون منها؟ ما الذي يجعلهم يخافون ممن جاء لكي يقدم لهم المساعدة؟ والدولة التي طهرت بلدات عدة من المسلحين - كما زعمت - لماذا لم تقدمهم إلى محاكمة علنية وهي التي تحبس الناس لسنوات عدة إذا نطقوا بكلمة!
وسؤالي للرئيس وبطانته: إذا كنت صادقاً فلماذا تمنع الصحافة من دخول البلاد؟ وإذا كنت لا تشارك في ارتكاب الجرائم فلماذا لا تسمح للأمم المتحدة بإجراء تحقيق؟
وإذا كذبت، ولم تتمكن من قتل كل شهود العيان على ما ترتكبه من جرائم، فكيف ستفلت من الحاجة إلى إجراء تحقيق؟
وبعد أن قتلت أكثر من 6000 إنسان، واعتقلت وعذبت أكثر من 30000 إنسان، فهل تظن أن من الممكن الإفلات من المساءلة والحساب؟
وإذا كنت تعتقد ذلك فأين تظن أنك تعيش؟ فهذا الكوكب يدعى الكرة الأرضية، وهو بالتأكيد ليس المريخ.
السؤال الآخر: إذا كانت لديك مشكلة فلماذا لا تحلها بدلاً من الكذب بشأنها؟
الإعلام الرسمي السوري غبي بطبيعته؛ لأنه لا يحاكم محاججاته بأسئلة منطقية، إلا أن غاياته السريعة هي التي تبرر له قول أي شيء، إلى درجة أن صُنّاع القرار الإعلامي لا يتفحصون دقة الرواية. وهم إذ يطلقون الكذبة وراء الكذبة فإنهم لا يجدون وقتاً للتدقيق فيها.
والحاجة إلى إعلام رسمي هي بحد ذاتها حاجة غبية. أولاً، لأن الناس صاروا في غنى عنه. وثانياً، إذا كان الناس لا يصدقونه فما نفعه؟
من حق كل إعلام أن يدافع عن غاياته وتطلعاته، لكن الإعلام الرسمي هو الوحيد الذي - إذا جاز بقاؤه - يجب أن يكون وطنياً.
و»وطنياً» تعني أن يكون ممثلاً لإرادة الناس لا لسانَ حالٍ للنظام، وأن يكون صوتاً للناس لا سوطاً على ظهورهم.
والفَرْق بين الصوت والسوط بسيط لفظياً، إلا أنه على أرض الواقع بحجم الفَرْق بين ما يراه الناس بأعينهم وما يقوله إعلام التزوير.
ولكن الناس يعرفون، ومثلما أن حبل الكذب قصير فإن حبل التزوير قصير.
والعالم كله يعرف، إلا أن إعلام الكذب يواصل عرض بضاعته الكاسدة، ليس أملاً بأن يشتريها أحد، ولكن لأنه لا يعرف غيرها ليبيع!
كاتب وناشر ورئيس تحرير «المتوسط أونلاين»