البارحة غرقت في صور قاتمة مظلمة ليس بها ضوء، تعاظمت هذه الصور لدي لدرجة تحول فيها رأسي إلى ما يشبه الدائرة الكبيرة وإلى وجع فظيع ومن تشكيل وعيي إلى صور متحركة وساكنة مبهمة، البارحة توجهت صوب سوريا عبر القنوات الفضائية شعرت حينها
وكأنني أدخل كواليس مرئية، رأيت فيها دخان ودماء وأشلاء وبنادق رشاشة رعناء بلا هدف ولا وجهه تقتل الطفل والشيخ والمرأة المسنة وأشجار الياسمين وحقول الحنطة، وحناجر تحاول حجب الحقيقة، وكلاما يلسع الظهر، منظر الدماء المسفوكة على الأرصفة والطرقات، ودخان الحرائق المستعرة في الأزقة وفي البيوت، جعلت ضربات قلبي حينها تتصاعد وتيرتها بدرجة عالية كدت بعدها أن أسقط، لقد شهقت كثيرا مثل غريق يائس، لأن ثقل المنظر كبير هناك في أرض سوريا، لقد شاهدت المناظر المروعة البائسة، حتى أن الأصوات حولي كلها قد تلاشت، ولم يبقى في رأسي سوى صراخ أمهات ثكالى على أطفال تم ذبحهم بقوة وتشفي بلا ذنب سوى البراءة، لقد وسدوهم الحجر ولحفوهم بالحصى والتراب، وبقوا اللصوص يضحكون من خلفهم بهستيريا طاعنة مثل قطيع ذئاب عمياء يقطر من أنيابها الدم بعد أن نهشت الأجساد وسرقت الخبز والخاتم والسوار، البارحة كبرت الصور المأساوية برأسي وزادت، حتى جفت عيني وعدت أبحث عن ما تبقى في عيني من قطرات دمع قد تكون محبوسة في مكان أبعد عن حدود معرفتي، لم أعد أطيق حينها رائحة العطر والبخور وشرب الماء المصفى وفنجان القهوة وحبات التمر ومنظر التحفة والساقية، فالأحداث هناك توقد القلوب النائمة، وتعيد للمجنون عقلة، زاد عليها وحشة المنظر الكئيب والأكفان البيضاء والأطراف المبتورة والصراخ والعويل ونداءات الحرائر، ليصرخ السؤال، لماذا أصبحت سوريا مسرحا كبيرا للقتل والتدمير والحرق لا يتمكن فيه الواحد من السير على أقدامه ويتبع خطاه ويستنشق الهواء بطريقة مثلى؟ ربما لأن اللصوص المشاكسين هناك يشعرون بالزهو أمام معلمهم الذي أعطاهم السراج والفتيلة وحجر الصوان وأخذوا بعدها يسقون الشوارع بالدم والنحيب والدمع، اللصوص الذين اقتلعوا النوم من محاجر الأطفال اتفقوا على أن ينهبوا الخبز والسكر والوقود و-أستكانات- الشاي غير مكترثين بجوع الآخرين والعطش، اللصوص المشاكسون فارقتهم الحمية والضحكة والسلام، وأخذوا يوزعون الرصاص غير مبتسمين مثل دببة حمقى، اللصوص المشاكسون غير مهتمين بنقالات الموتى لأنهم يملكون الجفاف والقسوة، اللصوص المشاكسون يتوقدون نار الخيانة والحرملة والرحلة المعقدة، اللصوص المشاكسون يتشابهون بفعلهم وبرودهم وغدرهم الكبير، ويتحدون في الخيانة مثل هرة مجنونة تأكل أولادها، ليبقوا بلا حسرة من أول الحزن لآخرة، اللصوص المشاكسون يحصون المدن والحدائق والأشيء ليدكوها بالمدفع والهاون، يخرجون جميعهم من وراء الستار مثل أشباح تتكرر، يتساوون مع العتمة والضجيج وصوت الريح، يهزون غصن الهدوء ويملئون الفراغ رعبا، ليس عندهم مجرى للحياة، ولا مكان للكلام المفروش في متحف الزهور، للجنون عندهم متسع بلا نهاية، لا يتركون للشجر ظل، ولا للياسمينة رائحة، ولا للعروسة خدر، هم مثل غيوم سقطت بغفلة وفجأة، ومثل ليل أسود وعتمة ورماد، لا بياض يسكن قلوبهم، ولا فرح يسور نفوسهم، البارحة منذ أول الليل وأنا محاصر بالصور المتحركة والساكنة، أفكر بطريقة لهذه الواقعة المريرة، لقد حزنت كثيرا لأن هناك من تشدق بهذه الفاجعة ولم يحاول أن يفعل الكثير من أجل تعزيز قيم السلام لبشر معذبين ومهانين ومشنقين على مذابح العار، لقد أصبحت الأحداث هناك مثل طقس جميل يبثون فيه طموحاتهم الخيالية وأحلامهم الوردية، ما زالت الصور حتى اليوم تقض مضجعي وتحفزني للبكاء، وتبقي في صرخة خالدة ضد كل الطغاة المستبدين والمصرين على الطغيان وقسوة الفعل ووحشية العمل.
ramadanalanezi@hotmail.com