أصبح مفهوم الحوار بين الحضارات والثقافات من المفاهيم والمواضيع الأكثر تداولًا في السنين الأخيرة بسبب غيوم الظلام والأزمات التي طبعت عصرنا الملبد بالصراعات الاجتماعية والدينية والثقافية، ولما أخذه من
تعاريف تجاوزت كثيرا دلالته المعجمية المعروفة، كما زاد من حدة الاعتداد به ضرورة الرجوع إليه كأسلوب للتعارف والتقارب وإصلاح ما شاب الأفكار والنظريات من اعوجاج في الحكم والتقييم. إن المجتمعات في ظل تنامي العولمة تتقاسمها مخاوف متشابهة ومتبانية، وتسعى جاهدة لإعمال كل طاقاتها القانونية والمؤسساتية لمعالجتها أو لاستباقها. فمن هجرة منظمة وسرية من دول الجنوب إلى دول الشمال، وكل التداعيات الأمنية التي تطرحها في دول الاستقبال والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دعت إلى ذلك في دول الجنوب، إلى إرهاب عابر للقارات والحدود، مرورًا بالصراعات والحروب التي تودي بحياة الآلاف من البشر في فلسطين المحتلة والعراق وأفغانستان والعراق، كلها عوامل غذت جذور اللاتفاهم والتنافر بين الشعوب والأمم وأضحت تنمي أغصان الكراهية والشنآن وتولد نظريات التشاؤم والمخاوف المتتالية.
لقد غدا العالم قرية صغيرة في ظل السلطات الجديدة للعولمة وأصبح للأفكار الرائجة مغزى وأبعاد وانعكاسات مباشرة على العديد من الأمم والقارات، فالرسوم الكاركاتورية الدانماركية المشوهة للرسول المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم- التي أثارت ردود فعل عنيفة من الدول الإسلامية والكلمات المغلوطة حول الإسلام التي عبر عنها البابا بونوا 16 في محاضرة ألقاها في جامعة راتسبون سنة 2006، كلها أحدثت في الدقائق التي تلت صدورها انعكاسات مباشرة في العديد من الأقطار والشعوب وغليانًا شعبيًا كبيرًا لا يفتأ يكبر إذا لم تخمد المسببات في إبانها. هذا من جهة. ولكن الداهية العظمى والمصيبة الآزفة والطامة الكبرى التي ليس لها من دون الله كاشفة هي تلكم الرواسب والتراكمات الخاطئة والأفكار المسبقة التي تقبع في أذهان الناس والتي لا تفتأ تنمو وتترعرع مع الأحداث التي تعج في الساحة الدولية.
أعطي مثالا حيا على ذلك. لما كنت طالبًا أكمل دراستي العليا في الجامعة الفرنسية، كانت من بين المواد التي ندرسها نظريات العلاقات الدولية ومن بينها نظرية «صدام الحضارات» لصامويل هانتنغتون، وهي كما أسلفنا نظرية خاطئة ومغرضة لعدة أسباب، ولكن ما يهمني هنا هو مدى تجاوبي أنا وزملائي الطلبة العرب والطلبة الفرنسيين والأجانب في الجامعة الفرنسية أثناء دراستنا لها. هناك تباين جلي في التلقي والتجاوب، فالطلبة العرب يحتكمون بصورة حقيقية ومرضية إلى واقع الحضارة العربية والإسلامية أثناء تلقيهم من الأستاذ المحاضر لجوانب هذه النظرية، أما الطلبة الفرنسيين والأجانب (ما عدا الأفارقة والآسيويين منهم) فيحتكمون إلى النظرية كما هي بل ويغذوها أيضا انطلاقًا من نظريات مشابهة لها ويبقوا في هذا الحد من الفهم دون الغوص في خبايا التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة لبناء نقد ذاتي لنظرية رغم بساطتها لها من النتائج على الفكر والنظرة إلى الآخر ما ليس لغيرها، وإذا دخلت في حديث فكري معهم وجدت نظرتهم إلى الحضارة العربية والإسلامية نظرة محقرة، وإذا بحثت معهم فوق الحشائش وتحت الحشائش فلن تجد علمًا ولو بسيطًا بتاريخ وواقع الحضارة العربية والإسلامية، بل مجملها سطحيات تفند بواقع العلم والحقيقة، والأدهى أن نظراتهم تغذى بإسقاطات على وقائع ليس لها لا مرجع ولا أصل منصف، وما زلت أتذكر يومًا سألت أستاذًا من أصول ألمانية توماس ليندمان وهو من كبار منظري العلاقات الدولية في الجامعات الأوروبية عن جدوى إدراج نظرية هانتنغتون في مادة السلك الثالث وفي هذا المستوى من التعليم لأن هانتغتون لا يمكن عده من منظري العلاقات الدولية ولا نظريته تصلح لأن توضع كند مع نظيراتها في العلاقات الدولية، فكان من إنصاف هذا الأستاذ أن ساندني الرأي ولكن دون الخوض معي ومع زملائي عن ماهية إدراجها ضمن المقرر.
نعم إنه الجهل العميق بالواقع، والتراكمات المغلوطة التي تخلق صورًا مشوهة حول الآخر، والعينة التي أخذتها هي عينة الطلبة ذوي كفاءة كبيرة في الحكم والنقد وعلى مستوى كبير من العلم وذوي الاختصاص في المجال، فما بالك بالرجل الغربي العادي الذي لا يتغذى فكره إلا بوسائل الإعلام، وكم هي صائبة كلمات صاحب جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 1999 الأستاذ أحمد زويل عندما قال إن الغرب قلما يتذكر، بصفة عامة، الدور الأساسي الذي لعبته الحضارة الإسلامية، والتي كان يتواجد أحد مراكزها بإسبانيا، التي كانت فيها أوروبا نفسها تهيم في عمق التخلف، وأنا أشك في أن الناس، في شوارع نيويورك أو لوس أنجلس أو لندن أو باريس، يعرفون اليوم مدى تقدم الحضارة الإسلامية في ذلك العصر. لقد قدمت هذه الحضارة للعالم، معارف جديدة في مجال العلم والفلسفة والأدب والقانون والطب وغريها من المجالات (...) ويراودني الشك كذلك، في كون الناس يتذكرون أن التسامح قد كان من المميزات السائدة في هذه الحضارة، ذلك أن فترة أوج الحضارة الإسلامية هي الفترة التي عاش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون جنبًا إلى جنب في سلام، بإسبانيا وببلدان أخرى من العالم الإسلامي.
وأنا لست هنا في وارد إلقاء اللوم على الغرب وحده لجهله الكبير بالآخر المسلم، فالعكس في بعض الأحيان صحيح، ولكن العالم الإسلامي محاط اليوم بشتى أنواع الإكراهات في علاقته بالغرب؛ والإسلام الذي هو أصل عقيدته وقوام هويته متهم في الأذهان الغربية بكونه دين الغلو والتطرف والإقصاء بل وحتى الثقافة العربية-الإسلامية متهمة على كونها تميل إلى التقليد المحبط وتغذي خصوصياتها الحضارة العربية والإسلامية، وهي المرجع الرئيسي حسب زعمهم لحركات الإرهاب في العالم. وعلى الإنسان المنصف الذي يريد أن يحكم على الواقع أن يتجرد من هذه الأحكام المغلوطة ويرجع إلى الأصل المستبين للحضارة العربية والإسلامية والدين الإسلامي. والمشكلة هنا أن تلك الرواسب الخطيرة في الذهنية الغربية، تستند أيضًا إلى فعل بعض المسلمين أنفسهم الذين ليس لهم أية دراية بالرسالة الحقيقية للإسلام، فلا واقعهم ولا تصرفاتهم تومئ إلى شيء من الإسلام.
إن أي تحليل يعنى بالديانات والحضارات والثقافات يجب أن يكون تحليلا صادقًا يتحرى الحقيقية والإنصاف، وهو الذي بإمكانه أن يخلق طرقًا مثالية للتعارف والحوار البناء، إنه لا يقف في حدود السطحيات ولا يبنى على تفاهات تتقاولها وسائل الإعلام أو يروجها أناس لهم حقد دفين ضد الآخر الذي له دين مختلف وخصوصيات ثقافية مغايرة، إنه المستوى اللائق بذوي العقول الحصيفة التي تبحث عن الحقيقة في كل مظانها وتنبذ الأباطيل والترهات وتسعى إلى الإنصاف.
وهذا المنهج التحليلي المنطقي والواقعي والذكي هو الذي يتوصل من خلاله إلى كشف اللبس بتقرير الحجة وإظهار الحق، ويبلغ ذروة التحقيق في الإحاطة بشروط البرهان لأنه مدعوم بالعقل والاستدلال، ومن هنا يمكن أن ينطلق الحوار، ليس بين الحضارات والثقافات، ولكن بين ممثلي تلك الحضارات والثقافات، لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقا من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون، وهم لوحدهم بإمكانهم رسم منهج للحوار لرفع كل غواشي التنافر والصراع الناجم عن اللاتفاهم والتعصب والانغلاق، وللدخول في نقاش وتداول للآراء، ووضع حد للصراع أو القطيعة بينها.