تختلف القراءات التي يمكن للمثقف أياً كانت هويته ومهما كانت وجهته وموطنه واهتماماته أن يسقطها على «الجنادريــة.. الحدث»، فهي صنعة عالمية متقنة يمكن أن نصنفها في مربع حوار الأجيال وملتقى الحضارات.. والجنادرية في شقها التراثي ذات وجه وطني تأصيلي متميز، يحكي ملحمة البناء، ويعطي المتأمل والراصد دلائل العطاء، ويبرهن على استمرار جداول التلاحم وعناوين الوفاء، وفي ذات الوقت فالجنادرية في برنامجها الفكري وأمسياتها المتنوعة الحدث الثقافي الأهم على الإطلاق في الفضاء العربي الواسع، إذ يجتمع نخبة من المثقفين العرب الذين قدموا من بلاد عدة في أرض الله الواسعة، جاءوا إلى العاصمة الرياض وكل منهم يحمل بين حناياه جرح عربي غائر، بل جراح تتجدد صباح مساء، لم يزدها كر الجديدين إلا تلوناً وتخاذلاً وتفنناً!!
جزماً سنفتقد هذا العام وجوهاً ثقافية عديدة، نعرفها جيداً، نعرفها بكتاباتها المتميزة.. بأطروحاتها الجريئة.. بقصائدها الرائعة.. برواياتها وقصصها وحكاياتها المحبوكة.. بأقوالها وأحاديثها ومسامراتها الشيقة.. كانت هذه الشخصيات حتى العام الماضي على رأس قائمة الضيوف ولأعوام عدة، وها هي اليوم.. في كل واد تتيه، أو أنها قضت نحباها، أو أنها واقعة داخل أسوار البلاء بمضامينه الخمسة المعروفة «والفتنة أشد من القتل».
شخصياً أعتقد أن جنادرية هذا العام ستشهد حضور مفكرين وكتاب من مختلف الأطياف والأعمار وفي مختلف الفنون الأدبية والفكرية وسيحيون هؤلاء النخبة المختارة حوارات ساخنة، وستكون لهم فضفضات رائعة وبلغات مختلفة وتحليلات مستقبلية متباينة، يجمعها الحس العربي والشعور بالخطر القادم، وتفرقها المذهبيات والتوجهات والتحزبات.
الدم السوري.. والوضع اليمني.. والمستقبل التونسي.. والشارع المصري.. والشأن العراقي.. والأزمة البحرينية.. والاستقرار الليبي.. والملف السوداني.. والخطر الفارسي.. والأمن الخليجي.. والدور السعودي المطلوب، وقبل هذا وذاك القضية الفلسطينة المتجددة.. ستحضر كل هذه القضايا وإن غاب بعض رموز الذين كانوا هنا كل عام، وسنسمع الكثير عن هذه الأحداث الموجعة، وستفتح ملفاتها بأغلفتها الثقافية/ السياسية وبفهارسها ذات المضامين العديدة ومفرداتها المؤلمة، وجزماً لن تكون القراءة والتحاليل محايدة فالعاطفة العربية اليوم جراء الأحداث الجارية خاصة في سوريا العزيزة تجعل الحليم حيرانا.. والذي أعرفه من السنوات السابقة أن الفندق الذي سيسكن فيه ضيوف المهرجان سيحتضن في بهوه الرائع بنجومه المتجددين الجلسات الثنائية والجماعية وسيجد المثقف السعودي نفسه أمام مشهد متكامل يروي له قصة ما يسمى بالربيع العربي منذ لحظة الميلاد وحتى الساعة، والله وحده هو من يعلم كيف ستكون النهاية!!
نعم، سيجد الكل في هذا المكان الآمن أرض الرياض عاصمة الوطن الكبير بقلوب قادته وكرم قيادته الفرصة السانحة للفضفضة وقول ما في النفس من أشجان وأحزان وسيكون للجنادرية الحدث أثره ووقعه النفسي على المثقف العربي الذي يشعر اليوم أنه عاجز عن التفكير في محيط أسرته فضلاً عن وطنه وأمته إلا في مثل هذا البلد الأمين، أرض الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، حتى «أرض المهجر» صارت في عيون الكثير سجناً كبيراً جراء الأحداث العالمية المتوالية والتغيرات الاقتصادية الصعبة في عصر العولمة الجاثم على صدور الغرباء.
إن كلمات الشكر للجنة المنظمة تتقازم أمام هذا العمل الجميل الرائع والمتكامل، ولذا لا يملك المثقف والكاتب السعودي سوى تسجيل الافتخار بانتمائه إلى قافلة المدعوين للتشرف أولاً بالسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه-، وثانياً لحضور الفعالية الثقافية المختلفة، والاحتكاك بالمفكرين الكبار مبدعي الحرف وسابكي الكلمة ومجيدي التفكير..
دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.