الضرار ارتبط عضويا في حكم المسجد المبني لمضارة المسلمين وأذيتهم، ويمكن لهذا أن يعمم ليشمل كل مامن شأنه إلحاق الضرر بالمسلمين وأذيتهم، ومن ذلك إطلاق المصطلحات الشرعية دونما تمحيص، وأصبحت تحكمها الفوضى والتساهل والتطاول على المصطلح الشرعي بصورة مخيفة حتى ملأنا صدور مجالسنا بالتصنيف والحكم
على نوايا الناس والتطاول على أعراضهم التي هي من المحرمات في الإسلام الذي يأبى أن يكون المصطلح الشرعي مصطلح ضرار، وبخاصة في ظل عدم التثبت الذي يعتمد على سمعت الدهماء قالوا فقلت، ورأيت الغوغاء ساروا فسرت، وربما كان بعضهم يطلق هذه الألقاب والاسم الفسوق وينابز بها مسلما من أهل القبلة، وهو لا يدرك أنه يتخذ مصطلحا ضرارا في صورة لا تختلف عن ذلك المسجد قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} بل إن ضرر المسجد محدود على مريديه بينما استعمال المصطلح في حق المسلمين أكثر ضرارا وبخاصة في ظل انتشار وسائل الإعلام التي بدأنا نسمع كثيرا فيها تصنيف البشر بين ليبرالي وعلماني وسلفي وإخواني وجامي ومبتدع وخبيث مخبث لإسقاطه من نفوس العامة والدهماء ظلما وعدوانا، وربما ألقيت التهم بدون دليل نتيجة مسائل خلافية يسعها الشرع الإسلامي، وربما أفتى بها إمام من أئمة المسلمين القدماء لتشرعن هذه الظاهرة المستحدثة ظاهرة التكفير والإقصاء والعداء وتفلسف الخطيئة والتهمة ليفقد المجتمع أهم مقومات وحدته وبناءه على أسس متينة تستعصي على الهدم والاختراق ولا أخطر من تفريق الصفوف والتصنيف إلى مجموعات كل منها يتقرب إلى الله بظلم الآخر متجاهلين أن المسلم الحق ينظر لصاحب المعصية بنظرة لا تخلو من حمد الله جلَّ وعلا على أن برأه منها فلم يرتكبها، ونظرة مشفق على صاحبها من عقاب الله جلَّ وعلا فيرحمه ويحاول بالحسنى أن يهديه بالتودد والتلطف والبحث له عن مسوغ في هذه المسألة الشرعية، وإن كان الحكم عليه بمصطلح شرعي في قضية دنيوية تتسع لوجهات النظر فأدهى وأمر.
إن استعمال المصطلح الشرعي لا يعني بالضرورة شرعية من أطلقه على من أُطْلِق عليه والعجب الحرص الشديد على تحققه في المقابل ويدافع عنه المُطْلِق بكل ما أوتي من قوة على أنه حكم الله في هذا الشخص؛ بينما وردت النصوص الشرعية في التحذير من هذا التهور لأنه تبنى عليه أحكام شرعية كثيرة ليس المقام مقاما لسردها، والأولى أن يتهم المرء فهمه قبل اتهام نية الآخرين، ولا ينسب لله حكما في مسلم حمالا للأوجه في مسألة تتكافأ ادلتها المعتبرة وربما كان له كل العذر وأنت تلوم، وقد ورد تحذير المصطفى من التطاول على حكم ربنا جلّ وعلا.. في صحيح مسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي جيوشه بوصية عظيمة، ومنها: «وإذا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أنْ تُنزلهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلُهُمْ على حُكْمِ الله ولكن أنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي أتُصِيبُ حُكْمَ الله فيهِمْ أم لا» وشرحه سماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وقوله: (لا تدري). أي: لا تعلم (أتصيب فيهم حكم الله أم لا)، وذلك لأن الإنسان قد يخطئ حكم الله تعالى... وإن حصل الاحتراز بأن يقول: ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله، فهو أولى، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه. واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، فيقول الكفار: إن أحكام المسلمين متناقضة». وذكر فائدة في النهاية وهي أنه لا ينبغي أن يقال لمفت: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا، فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام، ولا يقول مفت: حكم الإسلام كذا، لأنه قد يخطئ، ولكن يقيد، فيقول: حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح وصريح، فلا بأس، مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام. وقال سماحة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (كتاب إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد) «ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك» يعني: على اجتهادك، تقول لهم: أنا أجتهد فيكم فرب الحكم الذي أرى أنّه حق وصواب، فإن وُفِّقت وأصبت فذلك من الله سبحانه وتعالى، وإنْ أخطأتُ فهذا من اجتهادي ولا يُنسب إلى الله سبحانهوتعالى. وإذا حصل خطأ في اجتهاد البشر فإنه لا يُنسب إلى حكم الله سبحانه وتعالى.
ولهذا، قال في ختام الحديث: «فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا». قال الفقهاء: فهذا فيه دليل على أنّ المفتي إذا أفتى بفتوى لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول: هذا اجتهادي الذي أراه، لأنّه لا يدري هل أصاب الحقّ أو لا، فلا ينسب إلى الله شيئاً لا يدري هل هو حقّ، أو خطأ. وفي هذا دليلٌ على أنّ الخطأ يتفاوت، وأنّ الذنب يتفاوت؛ بعضُه أعظم من بعض. وفيه: الإرشاد إلى أخفّ الضررين، فإنّ نقض عهد الله سبحانه أشدّ من نقض عهد المخلوق، وإن كان الكلّ حراماً، سواء كان مضافاً إلى الله أو مضافاً إلى المخلوق، ولكن نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوق. وهذا يؤكد خطورة الجزم في بعض المسائل التي يتبين فيها فيما بعد أن الخلاف فيها مستساغ؛ فما كان حراما بحكم الله في الامس أصبح حلالا اليوم وبحكم الله أيضاً وهذا مما ينزع هيبة أحكام الشرع ومصداقية القضاء واحترام الفتوى من نفوس الناس... إن أعظم دليل على أن المصطلح الشرعي قد يكون ضرارا وحينها يفقد شرعيته مصطلح المهاجرين والأنصار الذي جاء بعد هجرة المصطفى إلى المدينة وذكره القرآن قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وحينما استعملوا هذا المصطلح في غير مكانه كان جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبدعوى الجاهلية؛ إذ ورد في صحيح مسلم في باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما. «حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر أو المهاجرون يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ما هذا دعوى أهل الجاهلية قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، قال فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره»... وفي البخاري عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأنْصَارِ... فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ... فَسَمِعَ ذَِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟»... قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه.. كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ.... فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»... فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سلول.. فَقَالَ: «فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»... فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم... فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ.. دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ»... فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com