بين الحين والآخر يهاتفني بعض الشباب، متسائلين عن موقف الفكر الإسلامي من نازلة سياسية أو شاردة فكرية. وآخرون يطلبون اللقاء بي في منتدياتهم، وقد لا أكون في بعض الحالات مهيأ نفسياً للحديث، أو لا أكون مستعداً معرفياً للقول الفصل في القضايا المصيرية، وقد لا أكون خالياً من المشاغل للاجتماع، فأعتذر،
وحين أتهيأ وأتوفر وأخلو، ألم بهم على وجل، ثم أفتي عن بعض تساؤلاتهم بـ(لا أدري) ومن قال: لا أدري فقد أفتى، ومن جهلها هلك وأهلك، وأذكر أن أحد الأئمة وأظنه الإمام (مالك) رحمه الله، سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، وما زاده ذلك إلا عزَّاً وتمكينا، ولا يقولها إلا عالم، يعرف قدر نفسه، و يعرف خطورة القول بغير علم، وإذا هيئت لي إجابة الدعوة، والتف حولي عدد من الشباب، اكتشفت أننا لم نؤد ما أوجب الله علينا، وأيقنت أن شبابنا يُتخطفون من بين أيدينا، ولست أشك أن للباطل دعاةً على أبواب جهنم، وأنهم متفانون في خدمة باطلهم، متقنون لفنون الجذب والإغراء، فالشباب الذين أستمع اليهم، وأفجر كوامنهم، وأمنحهم دفء الثقة، وحرية البوح، لا ينطلقون من فراغ، وقد لا يبحثون عن جواب، وإنما يبلغون رسالة، فهم يعتقدون ثم يتساءلون، وما كانوا فيما يذهبون إليه طلاب فتنة، ولا عشاق خروج على الجماعة، ولكنهم بمثاليتهم، وطهرهم، وخلو أذهانهم، وغفلة الرقيب عنهم، أصبحوا مشروع فتنة عمياء، لا تبقي ولا تذر، لا أقول ذلك على عمومه، ولكن الظاهرة موجودة، شئنا أم أبينا، ونحن مسكونون بغفلة المؤمن أمام جلد الفاجر، وغفلتنا المعتقة التي فوتت علينا أشياء كثيرة، حملتنا على حسن الظن بكل من بدت عليه مخايل التقوي والورع، ومن اليسير جداً أن نسلِّم القياد لكل طارق، تحت طائلة (زامر الحي لا يطرب) ولا نجد في أنفسناً شكاً ولا ارتيابا، حتى يتبين لنا الداء العضال، كما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وإذا وقع الفأس على الرأس، لا ينفع الندم. وعيبنا الطيبة الزائدة عن حدها، وتسليم أبنائنا لمن يمر بهم على نائم الفتن.
ولو أن المقتدرين الناصحين المعتدلين من العلماء والمفكرين عرفوا حق أبنائهم عليهم، واقتطعوا جزءاً من وقتهم للتوعية والإرشاد، ولو أنهم بحثوا عن الشباب في منتدياتهم وأماكن تجمعهم لكان خيراً للبلاد والعباد، وكم على الأرض من علماء ومعلمين وخطباء وإعلاميين يمتلكون الجهد والوقت والمعرفة، ولكنهم لا يؤدون حق الله عليهم، وكيف يفوِّتون الفرصة، وهم يعرفون أن هداية الضال خير من حمر النعم، ولا سيما أننا في زمن الغواية، وما أكثر الشباب الذين فقدهم أهلهم ووطنهم، بل فقدوا أنفسهم، وماتوا في سبيل الشيطان، وهم يحسبون أنهم يجاهدون في سبيل الرحمن. ومن ذا الذي يتصور أبناء الفطرة يتمردون على أهلهم، ويجتازون الحدود، تحت ذريعة الجهاد، فمن علمهم ذلك، ومن حملهم على المغامرة؟ إنهم أبناء الفطرة، ولدوا على السلفية، ونهلوا من معينها الصافي، ولكن دعاة السوء صرفوهم عن سواء السبيل، فأردوهم في مهاوي الهلكة، لقد كانت لي تجاربي في هذا المجال، بحكم ارتباطي بالشباب في حقل التعليم العام والجامعي، وأدائي المتواصل من خلال المؤسسات الثقافية والأدبية والإعلامية،طوال خمسة عقود أو تزيد، ولقد أدركت بالخلطة أنهم يعيشون ضوائق نفسية، وتَجول في خواطرهم أسئلة حائرة، ننهرهم عند سماعها، وكيف لا تحتدم مشاعرهم، والوضع العالمي يمارس أقسى الضغوط عليهم، والتحديات تحبط المشاعر، وتفجر الغضب، وتزيد الاحتقان، والمؤسسات العالمية التي أنشئت لكفالة الحرية ورعاية حقوق الإنسان، تصرِّفها اللعب السياسية، وتحكمها المصالح الوقتية، وكيف لا يمس الإنسان طائفٌ من الرفض والتمرد، وهو يرى هذه الانهيارات في سائر القيم، دول قوية متغطرسة، تحكم العالم بقوة العتاد والاقتصاد، وتسلب الحريات، وتنهب الثروات، وتفسد الأخلاقيات، وتتدخل في أدق الخصوصيات، تقاطع، وتحاصر، وتعاقب، وتحاكم، تنصر الظالم، وتخذل المظلوم، وتدعو إلى محققات حضارتها من (علمنة) و(عولمة) وفوضوية أخلاقية، وانفلات فكري، وتسويق لمصطلحاتها كـ(الليبرالية) و(الديموقراطية) وسائر المناهج في سائر العلوم، حتى إذا استجاب لها العالم الثالث، وحقق بهذه الآليات ما يريد، نكثت ما عاهدت عليه، وتصدت للحكومات الشرعية التي وصلت إلى المسؤولية بالانتخاب،بوصفه آخر ما توصلت إليه (الديموقراطية)، وأي حرية أو عدل أو مساواة في ظل الحسم العسكري لقضايا يمكن أن تحسم عبر اللقاءات والمؤتمرات وبالتداول الحر للآراء، وتلك الناقضات الصارخة تثير السذج والمبتدئين وتحتدم معها مشاعر الشباب المثاليين، وهذه الأوضاع المتردية والثورات الدامية، وتلك الحروب الأهلية المدمرة، وذلك التنازع بين السلطات والمذاهب والأحزاب وهذا الهوان والفشل والفقر والعوز وركون البعض إلى الأعداء والمداهنة والموالاة، كل ذلك يشكل ضغطاً موجعاً لناشئة الأمة العربية، ويهيئهم لقبول أي خطاب، يعدهم ويمنيهم، وإن كان وعده زوراً وغروراً، وهذه الظروف المعقدة تعد حالة استثنائية لا يحسم أمرها الأداء (الروتيني) الرتيب، بكل بطئه وتردده، إذ لا بد من تفكير عميق، يمنع من التدهور الذريع، ويمكن من الحيلولة دون احتناك الشباب الشارد بنظراته، المضطرب في تصوراته.
وإذا لم يبادر القادرون من علماء ومفكرين وخطباء وكتاب وإعلاميين لإنقاذ شبابنا من تحت براثن الإحباطات ودعاة السوء، فإن الأحوال ستزيد سوءاً على سوءٍ.