كانت الصحف ترفض نشر أسماء الشركات الفائزة بعقود مقاولات، أو صيانة ونحوها، وتكتفي بنشر خبر تم ترسية -العقد الكبير- على إحدى الشركات الرائدة، أو الدولية أو المحلية، وهكذا.
كان التبرير بأن نشر اسم الشركة أو المقاول، هو دعاية مجانية لها، رغم أن الصحف لا تخلو من أخبار عن شركات دولية وأسماء شركات الطيران والسيارات، وعلامات تجارية في سياقات مختلفة.
لكن العذر كان مقنعا، فالإعلان موضوع استراتيجي لا يمكن التلاعب بخطوطه الحمراء أو نقاشه، وهو دائما سيد الموقف، ولما لا، طالما أن رواتبنا تأتي من الدخل الإعلاني، اللهم زد وبارك!.
لكن مع الوقت غاب هذا المحذور، وبدأنا ننشر ونقرأ أسماء الشركات الفائزة بعقود البناء والصيانة والتموين وغيرها، وأصبح ملفتاً تكرار أسماء شركات قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في قطاعات محددة.
لندرك كيف تكون الشفافية في أبسط معلوماتها مثيرة للاستفهامات المليونية.
يمكن لنا أن نقول أن سيول جدة كانت نقطة التحول السعودية، في محاربة الفساد الإداري والمالي في البلاد، والحديث علانية وصراحة عنه ونقده. وأصبحت كلمة (فساد) بمشتقاتها أكثر كلمة يتم تداولها خلال الأعوام الأخيرة.
ويبقى المقاوم الأول للفساد هو الشفافية، متى ما حلت هرب الفساد إلى عالمه السفلي، صحيح أنه لا يوجد حل سحري للتطهير من الفساد وأعوانه، وسيبقى طالما أن الإنسان بعدله وشره باق.
لكن الأكيد أن محاربته وسن القوانين لمكافحته واتخاذ الشفافية في المشاريع الكبرى قبل الصغرى، ومعاقبة من تورط فيها باستمرار، سيقود إلى محاصرته، للأسف أن الفساد متى ما وجد الفرصة ملائمة فهو لا يتورع عن المجاهرة، وكنا نسمع قصصاً تتم المجاهرة به كنوع من المفخرة، لكن عندما يحدث تحول نحو الإشارة للفساد وأهله كخيانة وطنية عظمى، وتسن قوانين لردعه ومحاسبته، وتنشأ هيئة لمراقبتها والتفتيش عنه بجدية، فإن الثقافة العامة تتحول إلى وعيها الإنساني الخلاق والراقي الذي لا يجامل في الإشارة نحو رموزه وأشكاله.
اليوم نحن أمام مشهد آخر، فيه محاكمة متورطين بالفساد، وتحمل الصحف متابعات دورية، إضافة إلى أخبار معاقبات وإغلاقات لنشاطات كالمطاعم - مثلا - بسبب تسمم ونحوه، لكن ما زالت الأخبار تمارس نفس الأسلوب القديم المبني للمجهول، حتى في حال صدور حكم بحق جهة أو شخصية.
أمر لا يخدم الحرب على الفساد الذي تتبناه الدولة في كل مستوياتها، التشهير بالفاسدين، هو عقوبة ضرورية في عصر الشفافية من جهة، ومن جهة أخرى قوة ردع في مجتمع يحتل الموضوع الاجتماعي والسمعة أهمية بالغة، التشهير من شأنه أن يكون العامل الأكثر فاعلية في حرب البلاد على الفساد.