التشابه بين روسيا وسوريا يتجاوز الأسماء إلى ما هو أبعد وأبلغ من ذلك حيث إنهما تتشابهان في أمور كثيرة أهمها الطبيعة الشمولية والبوليسية لنظاميهما، إضافة لكونهما حليفان من أيام الحرب الباردة. فالنظام السوري البعثي الحديث هو صناعة الحرب الباردة، وصناعة ألمانيا الشرقية بالتحديد التي كانت تحت السيطرة السوفيتية بالكامل؛
فبينما تفرغ جهاز الكي جي بي (استخبارات الاتحاد السوفيتي) لملاحقة جواسيس أمريكا وأوربا، وللتجسس على بلدان المعسكر الغربي، تخصص الستازي، جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية، في تدريب أجهزة مخابرات الأجهزة الشمولية المعسكرة الموالية للمعسكر الشرقي ومنا أجهزة مخابرات دول عربية مثل العراق، وسوريا، واليمن الجنوبي، وسوريا، وكذلك تدريب مخربين للجبهات الثورية اليسارية على امتداد العالم في العالم.
وكان الستازي بيت الخبرة الأول عالميا آنذاك في صناعة الأجهزة الأمنية التي لا تترك ذبابة إلا وراقبتها، كما يقال. وهو أيضا أكثر الأجهزة قدرة على بناء جهاز أمني مركزي متعدد الشرائح يمنع حدوث أي معارضة، أو انقلاب داخل النظام. وفور سقوط جدار برلين عمل أعضاء هذا الجهاز لكفاءتهم المنقطعة النظير كخبراء في جنوب إفريقيا العنصرية، وإسرائيل، وبعض الدول العربية التي تعتمد على القمع كأسلوب حكم. ويقال إنه فور انهيار الستازي والعثور على ملفاته، أصيب الناس بالذهول لمعرفة أن هذا الجهاز استطاع أن يجند الأخ لينتصت على أخيه، والابن على أبيه، والزوج على زوجه.
سقطت ألمانيا وانهار بعدها الاتحاد السوفيتي وبقيت بقايا الكي جي بي في روسيا الجديدة في عهد يلتسن، وبوتين، وميدييدف التي تحولت إلى ديمقراطية شكلاً وشمولية مضمونًا؛ واستمرت دول العالم الثالث مثل العراق وسوريا في تشبثها بالتكوين الشمولي للحزب الذي رسمه لها الستازي وتجاوزه التاريخ لأنها لا تعرف له بديلا نتيجة لتجذر سلطة العسكر فيها بشكل يقوم على تصاعد الرعب من القاعدة للقمة حتى يصل لرجل واحد يرعب الجميع، وتتصاعد فيه أيضا المصالح المؤسسة على الفساد والسلطة والمحسوبية حتى تصل أعلى الهرم بحيث يرتبط كل فرد بمن هو أعلى منه ليكون ربيب نعمته الذي بدونه لا يساوي شيئا. وبما أن هذه النظم مغلقة بالكامل اقتصاديا يكون التهريب، والاستثناء من أنظمة الحماية أساس في تصاعد المصالح، وظلت المهربات من سيارات ومجوهرات تؤشر إلى مدى نفوذ الفرد وقربه من النظام، وذلكم هو النظام السوري الأسدي.
العراق وسوريا وغيرها كانت تلاحظ بتوجس كبير انهيار الدول الشمولية بما يشبه الدومينو ابتداءً من شاوسيسكو في رومانيا وانتهاءً بسلوببدان مليوفيتش في صريبا، وكانت تدرك أن عليها أن تتغير بما يتناسب مع العالم الجديد من حولها، ولذلك قرر صدام حسين مقايضة بقائه بتقديم خدمة للغرب بمهاجمة إيران آنذاك في حرب امتدت لعشر سنوات، واختارت سوريا مهادنة إسرائيل سراً لأسباب مماثلة وحصل تحسن نوعي وقتي في علاقتها مع الغرب عززه دخول سوريا حليف ضد العراق في حرب الخليج الأولى، مع منحها حرية التصرف في لبنان. أما على الصعيد الداخلي فلم تستطع هذه الأنظمة الإصلاح لأنها لم تجد إلى ذلك سبيلا، ولم تتوصل إلى طرق لتفيك البنية القديمة بشكل يضمن لها البقاء، فهذه النظم مثل عقود قبب العمارة الإسلامية إذا سحبت منها حجر واحد انهار العقد كله. فصدام منح الأكراد حقوقاً إضافية شكلية، وسوريا الأسد الأب أخذت تناور على حاجة الغرب لها في حرب لم تنته مع نظام صدام. ويمكن وصف هذه الأنظمة بأنها شديدة التماسك وسريعة الانهيار، ولذلك تهاوى نظام صدام من الداخل بشكل أذهل المراقبين عندما وجد الجيش فرصة لذلك في حرب الخليج الأخيرة. أما سوريا فتم توريث سلطة الأسد الأب للأسد الابن وتبدل رفعت الأسد برامي مخلوف، وبدأ النظام على تمنَع في منح الشعب جرعات إصلاحية بسيطة لا يمتلك تجاوزها، ثم دخل في حلف مع إيران وحزب الله.
الشعب اليوم في سوريا يطالب بإصلاحات جذرية ستؤدي حتما إلى زوال النظام لو أقدم عليها بسبب طبيعة تكوينه، وهو يزداد شراسة يوما بعد الآخر، وشراسته تتضاعف تجاه المنشقين عنه أكثر منها ضد المعارضين له لأن الانشقاق يعني تصدع بنيته وانهيارها بالكامل، وهو في المحصلة النهائية يريد المحافظة على هذه البنية متماسكة ولو على جزء بسيط من سوريا، فلنقل جبال المناطق العلوية. أي حزب متماسك ذو صلاحيات كاملة على جزء من سوريا بدلاً من حزب ذو صلاحيات جزئية على عموم سوريا، ويعتمد في دعمه الداخلي على إيران وحزب الله المرتبطان وجوديا به، وخارجيا يعتمد النظام على دعم محدود من الصين، ودعم أكبر من روسيا، مع تمسك الصين بموقف براقماتيكي أكثر من الموقف الروسي، وهذا ما اتضح من الفيتو المزدوج الذي لجمت به هاتان الدولتان قرار مجلس الأمن المخفف الداعي لضرورة البدء في إصلاحات سياسية والامتناع عن استخدام العنف ضد الشعب.
هذا الدعم من الصين وروسيا غير مستغرب لكثير من المراقبين، فالصين دولة ذات نفوذ اقتصادي ضخم في العالم لا يدعمه نفوذ سياسي بالحجم نفسه، ولذلك فمن المتوقع أن تتمسك الصين بمواقف مشابهة لتأكيد حضورها كقوة عظمى على الساحة الدولية، وهذا ما يفسر تردد موقفها تجاه التدخل في ليبيا، لكنها في النهاية تبدي استعداداً للتفاوض والخروج بأفضل الممكن مع الحفاظ على صداقاتها مع الدول الأخرى. أما روسيا فهي صورة معاكسة تماما، فهي دولة عظمى سابقة أخذ نفوذها في الأفول لأنها اعتمدت في نفوذها على تحالفات مع دول أخرى انهارت وانضمت للمعسكر الغربي، ولم يبق لها من الحلفاء السابقين إلا كوبا وإيران وسوريا، واقتصادها رغم الإصلاحات اقتصاد موجه للداخل لدول اتحادها، وليس للتصدير للخارج فيما عدا النفط الذي در عليها ثروة ضخمة مؤخراً، وليس لها مصالح اقتصادية كبيرة مع الدول الأخرى تخشى من فقدانها، فهي ببساطة لا تخسر كثيرا في دعم سوريا رغم وحشية تصرف النظام فيه، وهي تدعم سوريا وعينها على إيران.
روسيا تحتاج سوريا أيضا لأسباب معنوية داخلية، فهي تشعر بمهانة لعدم إعارة الغرب أهمية تذكر لتهديداتها فيما يتعلق بنصب الرادارات والصواريخ على حدودها في مستعمراتها القديمة مما جعل النظام يبدو ضعيفا في الحفاظ على مصالح الدولة في الخارج، كما أن الوضع الداخلي الروسي يشبه من حيث التسلط والفساد النظام السوري لدرجة يعتقد المراقبون معها أن الربيع العربي ربما يمتد لها ذاتها أو لبعض جمهورياتها الإسلامية كداغستان، والشيشان مثلا. وليس سرا أن طرطوس هي القاعدة الوحيدة الموجودة لروسيا خارج حدودها، وهي تدعم سوريا وتعرف أنها تدعم نظاماً منهاراً، إلا أنه من المهم ألا ينهار النظام قبل الانتخابات الروسية في مايو ليبدو بوتين ومديديف على أنهما من يتحدى الغرب ويقف في وجهه في الخارج وفي هيئة الأمم. الصينيون والروس أيضا يشعرون أنه هناك مشروع إعادة صياغة للشرق الأوسط ويريدان أن يكونا جزءاً من هذا المشهد، مع بقاء الصين في موقف حذر ذكي مقارنة بالتهور الروسي، فإعادة صياغة الشرق الأوسط ستعيد تشكيل خارطة العالم، وهو مقدمة لنقل الصراع الدولي لإفريقيا. الوضع في سوريا أخذ في التجذر والانقسام، وسوريا اليوم في وضع حرب أهلية بين النظام الشمولي القديم الذي لا يزال متماسكا رغم انشقاق كثير من ضباطه المتقاعدين، ولكنه سيحسم حتما بالانهيار الكامل للنظام لأن طبيعة النظام الشمولية، كما أسلفنا، لا تسمع بالإصلاح ولا بتقاسم السلطة، وبقائه بهذا الشكل مستحيل، وتبقى المسألة مسألة وقت مرهون بالتطورات الداخلية من جهة، وبما يحصل داخل روسيا من جهة أخرى، أو ما قد يستجد من صفقة ما تحفظ ماء الوجه لها.
التغير في سوريا أياً كان شكله سيعيد تغيير خارطة المنطقة برمتها، من حيث النفوذ الخارجي، ومن حيث علاقتها مع إيران وحزب الله، ومن حيث علاقتها بتركيا، فإيران ستصعَد حتما الصراع الطائفي في العراق لتشغل من تراه أعداء لها في المنطقة بهذا الصراع، وتركيا سترتكز على سوريا الجديدة في انطلاقتها جنوبا نحو مناطق نفوذها السابقة. ومن غير المستبعد أن يعمل حزب الله على تقسيم لبنان فعليا وليس نفوذيا فقط بتأسيس جمهورية شيعية في جبل عامل معتمد في ذلك على فلول النظام السوري الهاربة للخارج. بينما ستتحول لإيران إلى ما يشبه المحمية الروسية لتبقى شوكة في خاصرة الخليج والغرب وأداة لمساومات مستقبلية.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif