بقدر ما كان صمود مصر؛ قيادة وشعباً، أمام العدوان الثلاثي عام 1956م رافعاً لمعنويات أمتنا أضيف إليه انتصارها بعد عامين من ذلك التاريخ التخلص من حلف بغداد وقيام الوحدة بين مصر وسورية، كان انفصال تلك الوحدة بعد ثلاثة أعوام
من قيامها صدمة معنوية لهذه الأمة. ومع أن تلك الصدمة المعنوية كانت مما يبعث اليأس في نفوس شباب الأمة بالذات فإني حاولت أن أصمد أمام ذلك معبراً عن موقفي بالقول:
كفكف دموعك في محاجرها
فالفجر لن تغتاله الظلم
والقلب لا ينسب إلى دمه
يأس يكبله ولا سأم
إني نذرت لأمتي وتَرى
ما دام ينبض في العروق دم
أمجادها لحنٌ على شفتي
وكفاحها في خاطري نغم
أستلهم النغمات ناطقة
من مجدها فيصوغها القلم
شعراً على نبرات أحرفه
يتعانق الإصرار والشمم
واختتمت ما حاولت التعبير عنه من صمود أمام دوافع اليأس قائلاً بتفاؤل:
يا لَلْمُنَى والفجر في أفقي
متموِّج الإشراق محتدم
أرنو فأبصر في طلائعه
حمما تُفجر نارها حمم
وثابة الخطوات زاحفة
للنصر.. للتحرير تقتحم
وأرى الحمى الدامي يعانقها
لثما ويبسم للشهيد فم
والوحدة الكبرى يرف لها
في كل ساح حرة علم
ولم تستقم حكومة الانفصال في سورية أكثر من عامين. لكن الوحدة المتفاءل بحدوثها ما زالت -بعد نصف قرن من كتابة تلك الأبيات- بعيدة المنال مع الأسف الشديد. بل إن بعض أقطار أمتنا تفككت، وبعضها تكاد تتفكك. فالسودان فقد وحدته ومهدد لمزيد من الانقسام، والعراق لم يعد متوحداً كما كان، والأردن احتل منه الجزء الفلسطيني بما فيه القدس والمسجد الأقصى، وسورية احتلت منها هضبتها.. مرتفعات الجولان. وكفى الله أمتنا شر مزيد من الانقسامات والتفكك.
وفي عام 1967م أصيبت أمتنا بالنكسة، واحتل الصهاينة من أرضها ما احتلوا مضيفين إياه إلى كيانهم المغتصب، لكن بقدر ما كانت تلك النكسة صدمة عنيفة لمعنوياتها، وخسارة عسكرية فادحة لها، كانت قرارات مؤتمر الخرطوم في ذلك العام برهاناً على قوة إرادة زعاماتها حينذاك؛ إذ تجلى العزم على التمسك باللاءات الثلاث المشهورة: لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، ولا مفاوضات معه، ولا سلام. وكانت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية بالذات واحدة من علامات ذلك التمسك، وكان توقف تلك الحرب الاستنزافية المجيدة فترة يُرجَّح أن الداعي إليه التفرغ لمزيد من التمرين والاستعداد وإن فهمه أحد أبطال تلك الجبهة فهماً جعله يقول في رسالة إلى أمِّه:
أمي تبرَّمت من ذلي ومن دعتي
وهاج في دمي الإيمان والثار
ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني
وإن تصغهن «أهرام» و»أخبار»
تعاقب السنوات الست أوضح لي
ضلال من جنحوا للسلم واختاروا
وأن تحرير أرضي لا تحققه
إلا دماء سقتها الأرض أحرار
وكانت حرب 1973م حرباً أثبت فيها ذلك البطل وهو ورفاقه على الجبهتين المصرية والسورية عظمة المقاتل العربي وكفاءته. لذلك لم يكن غريباً أن كانت رسالته إلى أمه:
عبر القناة مظفَّراً وتقدَّما
جيش تبارك زحف موكبه السما
أمَّاه لم تعد الحواجز مانعاً
عبرت مواكبنا الحواجز بالدِّما
والخط! أين حديث من غنَّوا به
دهراً؟ على أيدي الأباة تحطَّماً
والجيش! أين القائلون بأنه
أسطورة كبرى؟ حنا واستسلما
أمَّاه أين الشامتون بأمتي؟
دُحِروا.. هوى ما روَّجوا وتهدَّما
وتبئنوا أن العروبة أمَّة
لن يستكين إباؤها أو يهزما
لما دعا داعي الجهاد تسابقت
للساح مفعمة حماساً مضرما
تضع الفداء إلى الخلود وسيلة
والتضحيات إلى الكرامة سلَّماً
وتساؤلات المغرضين تبدَّدت
لقيت بسيناء الجواب المفحما
وعلى رُبَى الجولان تكتب أمَّتي
في صفحة التاريخ مجداً أعظما
لهب تفجِّره أكفُّ أباتها
فتحيل فردوس اليهود جهنَّما
الآن يا أمِّي أعيد كرامتي
أقضي على ذُلِّي قضاء مبرما
وغداً ربوع القدس تصبح حرَّة
والمسجد الأقصى عزيزاً مكرَماً
على أن عزيمة ذلك المقاتل ورفاقه خذلها من خذلها من زعمائه فإذا به يكتب إلى أمِّة رسالة أخيرة يعتذر فيها عن تأخر رسالته إليها، قائلاً:
أمَّاه إن كنت لم أكتب فمعذرة
يد الأسى حطَّمت في كفي القلما
ماذا أقول؟ دخان الحزن يخنقني
يغتال في شفتيَّ النطق والكلما
بالأمس حدَّثت عن نصر أحقِّقه
وعن سنا أملٍ من حولي ارتسما
عن جحفلٍ سوف يمضي في تقدُّمه
مهما تكبَّد من هول وبذل دما
حتى يعيد إلى الأقصى هوَّيته
ويسقي الذل نذلاً دنَّس الحرما
والآن ماذا أرى؟ وضع يمزِّقني
يبث في مهجتي الأحزان والألما
توقفت طلقات النار.. عاد إلى
مجاهل الصمت صوت ضجَّ واحتدما
والقدس ما زال محتل يدنِّسها
وغاصب في حماها يرفع العلما
وعدت أبحث عن حلٍّ يقدمه
من صبَّ فوقي من ديلاته ضرما
وعن وثيقة تخليصٍ أقدِّمها
في خيمة جرحت من أمَّتي الشَّمما
هكذا كانت نهاية السنوات الست، التي أوضح تعاقبها لذلك المقابل العربي ضلال من جنحوا للسلم مع العدو الصهيوني وبيَّن - كما أثبت - أن تحرير الأرض لا يحقِّقه إلا سقي الأرض بدماء الأحرار. وما كان خذلان السياسي للمقاتل العربي في نهاية تلك الحرب إلا بداية للردة عن الموقف المتخذ في مؤتمر الخرطوم عام 1967م كما سيفتح فيما بعد.