كان دميم الخلقة، ضئيل الجسم، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرجل، تكاد العين تقتحمه، لفرط بشاعته، وقبح منظره، ومع ذلك فهو سيد قومه، إذا غضِب غضبَ له مئة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب، الكل يجله ويستشريه، والكل يحترمه ويقدره، وإذا جد الجد، وحزب
الأمر، وادلهم الخطب، لم يجدوا غيره - بعد الله - يلجئون إليه، ويصدرون عن رأيه، وتاريخه العريض المشرق يدل فعلا على نباهة شأنه، وعلو قدره، وكرم محتده، وأصالة رأيه، وعمق تفكيره، وجلاء بصيرته، وقوة جنانه، ورباطة جأشه، وسعة صدره.
وليست هذه الأوصاف التي ذكرناها من قبيل المبالغة، فقد أفرد له التاريخ صفحات وضاءة مشرقة أتى فيها بشواهد ثابتة، وأدلة دامغة تدل على كل ما ذكرناه، وعلى غير ما ذكرناه، فهو في الحرب فارس مغوار، وقائد محنك، دوخ الأعداء، وأبلى بلاء حسنا، وهو في السلم حكيم مجرب، وعبقري ملهم، منحه الله ذكاء خلابا، وبصيرة نافذة، ورأيا حصيفا، ولهذا دوى اسمه بين المسلمين، وذاع واشتهر، وأصبح مثلا يقتدى به فخطب وده الخلفاء، والولاة، وقربوه واستفادوا من خبرته وعلمه ورأيه.
ذلك هو « الأحنف بن قيس « سيد بني تميم، وحكيمها المجرب، وتميم هذه من أعز القبائل العربية، وأقواها وأشرفها، وفيها العدد الجم من النجباء، والسادة الفضلاء، ومع ذلك فقد انعقدت الولاية والسيادة لصاحبنا « الأحنف بن قيس «.
ويقال: إن هذا الفارس المغوار والعبقري الملهم كان يتميز بهذه الخصال الكريمة منذ شبابه بل منذ صباه، فقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا إلى بني سعد رهط الأحنف، ليعرض عليهم الإسلام، فقال لقومه: خوفا من أن يترددوا أو يحجموا عن الدخول في الإسلام (إنه يدعو إلى خير ويأمر بخير فلم لا نجيب دعوته) وأثرت هذه الكلمة في نفوسهم أبلغ تأثير فأسلموا وحسن إسلامهم، وعندما أراد أبو موسى الأشعري والي البصرة من قِبل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إرسال وفد إلى عمر في شأن من الشئون، اختار « الأحنف « ليكون أحد أعضاء هذا الوفد، لكن هذا الوفد وَكل مهمة الحديث والخطابة إلى الأحنف بن قيس رغم أنه أصغرهم، وعندما سمع عمر - رضي الله عنه - حديثه أعجب به، وقال من فرط دهشته (هذا هو والله السيد، هذا هو والله السيد) فدوَّت هذه الكلمة في سائر الأنحاء، ورددتها جميع القبائل، لأنها صدرت من عمر، ولأن المعني بها الأحنف بن قيس.
لقد أكثر الواصفون في تعداد مزايا هذا الرجل وبيان خصاله، وذكر مواقفه، مما يصعب ذكره في مثل هذه العجالة، ولكن يكفي أن نذكر موقفا واحدا كشاهد ومثل على ما نقول، فقد طلب منه بعض الناس أن يخرج على معاوية، ويشق عصا الطاعة، فلم يرض بذلك، ونهر من كلمه، لأنه يدرك أن الفتنة يعود ضررها على الجميع، ولأنه رأى أن من مصلحة المسلمين أن ينتظم عقدهم، ويلتئم شملهم، ليكونوا يدا واحدة على عدوهم، وعندما استنصر به الحسن بن علي لم يجبه وقال: (قد بلونا حسنا وآل حسن فلم نجد عندهم إيالة الملك ولا مكيدة الحرب) ثم نصح قوما من قبيلته أرادوا الانضمام لعبدالله بن الزبير أن لا يفعلوا بعد أن توحدت كلمة المسلمين وانتظم عقدهم وأجمعوا على تولية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وسمي ذلك العام عام الجماعة، ولكنه مع ذلك أطاع معاوية في شمم وإباء، فقد دخل عليه في يوم من الأيام فابتدره معاوية بكلام أغضبه فرد عليه بكلام يدل على رجاحة عقله، وبعد نظره، وسمو نفسه مما جعل معاوية - رضي الله عنه - يسترضيه، ويقربه ويقدره حق قدره ويستفيد من خبرته، وكمال عقله، رحم الله « الأحنف بن قيس « شيخ العرب ورجل المروءة والأدب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.