كُتبتْ هذه الوثيقة في 28 محرم 1307هـ، وكتبها عبد الله بن عتيق وأملاها الشيخ عبد الله بن حسن المخضوب في الدلم. وموضوعها بيع نخل في العذار من مدينة الدلم. ونص الوثيقة: (أقرّ علي بن حسين.. في حال انتفاء جميع موانع صحة إقراره بأنه باع على سليمان بن إبراهيم.. اثنتين وثلاثين نخلة من النخل المسمى بنخل آل صالح المعروف في العذار في بلد الدلم بثمن عده خمسة وتسعون ريالاً سقطت من ذمته حق ثابت لسليمان عليه: يحده جنوباً ملك شما بنت حسين وشرقاً جدار الطريق وشمالاً حائط النخل المذكور وقبلة الناي الحايل بين المبيع وبين الأرض المشترك والبيع شامل للمبيع المذكور وما يخصه من البئر وقصرها والطرق والسيل فصح البيع ولزم شهد على ذلك محمد بن راشد بن محسن وحسين بن أحمد آل عسكر وجماعة من المسلمين أثبته ممليه الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن حسين المخضوب سامحه الله تعالى وكتبه عن أمره شاهداً به عبد الله بن عتيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم 28-1-1307هـ). ثم ألحقت هذه الوثيقة بما نصّه: (شهد عندي عبد الله بن عتيق بما أثبته بخطه أن سليمان بن إبراهيم وقف النخلات المذكورة أرضها ونخلها وتوابعها وقفاً منجزاً بصرف نصف ريعها على الصوام في المسجد المحتاج أهله من مساجد العذار ونصف ريعها في أعمال بر كسراج ومؤذن..).
في هذه الوثيقة معالم وحقائق مهمة جداً عن القرن الماضي عاشها أجدادنا ويجدر بنا الوقوف عندها، لفهم التاريخ فهماً عميقاً وتوثيق القيم والمفاخر، والعظة والعبرة.
أول دلائل الوثيقة التي بين أيدينا الآن هي أن أجدادنا كانوا يكتبون عقودهم امتثالاً لأمر الله تعالى وبالصيغة والكيفية التي دعا الخالق سبحانه إليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (282) سورة البقرة، فقد كتبوا وكتب بينهم ولم يكتب أحدهم رغم شظف العيش وقلة الوسائل.. وأملى الوثيقة القاضي آنذاك عبد الله بن حسين المخضوب المعيّن من قِبل الحاكم وكتبها كاتبه عبد الله بن عتيق.. ثم ذُيِّلت بإثبات وقفية النخل وأرضه.
وثاني تلك الدلائل والعبر: ما كان للنخل من قيمة ومكانة عند أجدادنا لما لها من أهمية غذائية ولأنها من الأشجار التي لا تحتاج إلى سقي كثير وكانوا يظنون - رحمهم الله - أنها تعمّر طويلاً جداً.. وهي تعيش طويلاً ولكنها تفنى وتطول حتى يعجز أكثر الناس عن صعودها والاستفادة منها.
وثالث الدلائل: أن الناس هم الناس ففيهم الغني والفقير في كل زمان، فسليمان بن إبراهيم كان غنياً وقد كان في ذمة علي بن حسين آل عسكر له دين ولم يستطع سداده - وكثيراً ما تتكرر هذه الحالة فيأخذ الغني بعضاً مما يملكه غريمة بثمن يقدره أصحاب الخبرة ويسقط ذلك الثمن من ذمة المستدين.
ورابع الدلائل: وهو أمر يمكن العجب منه هو طيبة نفوس أولئك الناس وبراءتهم ويسر تعاملهم وبعد الوساوس والظنون والتوقعات السيئة من حياتهم وتعاملهم؛ فهذه الوثيقة تثبت الحدود من الجهات الجنوب والشرق وشمالاً و(قبلة) وهي: ملك شما بنت حسين وجدار الطريق ولم يتحدد الطريق وعرضه - وحائط النخل، ثم العجيبة (الناي الحائل بين المبيع وبين الأرض المشترك) (والناي) لمن لا يعرفه: سد ترابي لا يرتفع أكثر من متر! ومن السهل زحزحته ومساواته بالأرض لمن أراد إفساد الحدود والتعدي على أملاك الآخرين.. ولكنها النفوس الطيّبة النزيهة المتورّعة رحمهم الله رحمة واسعة.
وخامساً: حتى تسمياتهم للجهات لم ينسوا أن يسموا جهة الغرب (القبلة) لأن الغرب هو جهة القبلة لأهل نجد فعبروا بالقبلة وليس الغرب ربطاً لحياتهم بالدين وشعيرته الكبرى الصلاة!
وسادساً: ومن دلائل طيبتهم وصفاء نفوسهم بقاء البئر مشتركة والقصر وهو البيت المشترك ومجرى السيل وغيرها؛ فينفعون بها كلهم ولم يخطر ببالهم أن تكون محل نزاع أو خصومة!
وسابعاً: سليمان بن إبراهيم من أهل حوطة بني تميم ولم يكن يرغب الإقامة في الدلم فقرّر بمشورة راشد بن طالب إيقاف النخل وأرضه على أعمال بر وخير وجعل الناظر عليها من أشار عليه بالوقفية راشد بن زيد آل طالب، ثم ودَّع البلد راجعاً إلى بلدته محتسباً الأجر عند الله، وفي ذلك ودلالات كبرى على حبهم للخير وطلبهم للأجر وليس ذلك في بلدة كل منهم فحسب؛ ولكن في كل أرض فيها مسلمون محتاجون، وكانت استجابتهم لداعي البر والخير سريعة وبلا تردد، يبذر بذرة الخير ثم يوكل إلى الله تعالى حفظها ورعايتها ولم يمنعه من ذلك شح أو خوف افتقار!
ثامناً: الارتباط الوثيق بين شعائر الدين، فقد عرفنا الأوقاف الكثيرة التي توقف وريعها ينفق على الصوّام في المساجد، فالصوم والصلاة في المساجد مرتبطان فلا صوم بلا صلاة ولا صلاة في غير المساجد، وكان ذلك في كل بلدة قلّ أهلها أو كثروا مهما كان مستواهم من العلم والفقه، ومهما كان مستواهم من الغنى والفقر، فلم يتركوا الصلاة لا حضراً ولا سفراص، ولا في حالة الأمن أو الخوف، ولم يصلوا في غير المساجد.. بل كانوا يتسابقون إلى بناء المساجد والعناية بها وجعل الأوقاف عليها وحفر الآبار لخدمتها ونفع روادها وكانوا يتسابقون إلى الصلاة فيها ويدربون على ذلك صغارهم، فعمروا المساجد حسياً ومعنوياً استجابة لأمر الله تعالى وطلباً لمغفرته ورضوانه، ولم يكن يصلي في البيوت إلا النساء فقط أو المرضى الذين لا يستطيعون الوصول إلى المساجد، أما الرجال الأصحاء فكانوا يرون امتثالاً لأمر نبينا محمد صلى الله عليه عليه أنه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وكانوا يعاقبون من يتخلّف عن ذلك، وعلى هذا جرى أئمة بلادنا على مرّ القرون فشهدنا المساجد تعمر على أحسن بناء وتُزيّن وتُصان، ويعيّن فيها الأئمة والمؤذنون الذين كانوا يقومون بذلك احتساباً بدون أجر، ثم لما فتح الله الخيرات على البلاد وضعت لهم رواتب تُصرف لهم من بيت المال من الدولة. وبقيت للمساجد مكانتها وشعر الناس بأهمية وفوائد التردد عليها للصلاة وكان من أهم تلك الفوائد: تعميق الفقه في الدين وزيادة التقوى لله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقدوة الحسنة والتي هي أحسن، وتفقد الناس بعضهم بعضاً لزيارة المريض ومساعدة المحتاج وتعليم الجاهل وتذكير الناس، وكان من ثمار الصلاة في المساجد للرجال إظهار شعائر الدين وربط الناس بها، فليس الدين أوهاماً وأسراراً في النفس فقط أو دعاوى بلا دليل، كلا ولكنه قول وعمل، اعتقاد وشعائر، إيمان في القلب تصدّقه الأعمال الظاهرة وتثبته.
تاسعاً: من الأشياء المشتركة بين الناس في المزارع: السيل، فكانت أغلب الزراعة تعتمد على الأمطار والسيول وكانت مجاريها تمر على المزارع والبساتين كبيرها وصغيرها فينتفعون بها أقوى انتفاع ويوزعونها بينهم توزيعاً عادلاً فتسقى نخيلهم وأشجارهم ويرتفع بها مخزون الآبار ليكفيهم في حال توقف الأمطار، وكانت مجاري السيول حسبما رأيناها تختلف في سعتها فتبدأ واسعة من الجبال المحيطة بالبلد ثم تتشعب وتتوزع إلى مجار ضيقة لتصل إلى كل مزرعة وبستان قريب أو بعيد صغير أو كبير، بل كان بعض طرقاتهم هو طريق للدواب ووسائل النقل ومجرى للسيول في حال جريانها وكل ذلك مثبت في الوثائق التي يكتبونها في حال البيع والاستئجار، وكانت رحمة الله ولطفه ببلادنا واسعة فتنزل الأمطار في الشتاء والربيع ويتكرر جريان السيول مرات عديدة في السنة الواحدة، وقد أدركت ذلك قبل عقود قريبة من السنين.. نسأل الله لطفه ومغفرته ورحمته.
عاشراً: حملت هذه الوثيقة عبراً أخرى ودروساً تحمل أقوى الدلالات على طيب معدن نفوس أجدادنا وتقواهم لله وترابطهم وتآلفهم وحبهم للخير وانتفاء الأنانية وحب الذات وبعد الجشع والأثرة والشح عن نفوسهم، فكان من النادر أن ترى من يحب نفسه وينسى الآخرين، أو يفكر في بيته وملكه وينسى أرحامه وجيرانه، ولكن الواقع الذي عاشوه يدل على تضامن وتآلف ورحمة وحب افتقدها أكثر الناس اليوم وأصبحت في حياتهم أثراً بعد عين، فرأينا شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فلا عجب والحالة هذه أن ترى أصحاب المليارات وقريباً منهم من يموت جوعاً ومرضاً ولا يلتفت له أحد ولا عجب أن ترى من ترتفع ثروته ارتفاعاً غريباً في رمن وجيز جداً لأنه يأكل (عرق الآخرين) ويثري من ديون على المحتاجين ويضاعف أرباحه أضعافاً دون رقيب أو حسيب لجمع ثروة يفتح بها أبواب الشر على نفسه وأهله ومجتمعه فإذا حُدِّث عن أبواب البر والخير والصدقة غلبه الشح وقيّده البخل ومنعته النفس المولعة بحب الدنيا ونسيان الآخرة، نسأل الله العافية والسلامة والهداية للخير، وغفر الله لأجدادنا وألحقنا بهم في الصالحين إنه جواد كريم.
عبدالعزيز بن صالح العسكر