الحرية بمفهومها الأصيل المتمثل في قدرة الفرد على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من بين أمور عديدة متاحة، دون جبر أو ضغط خارجي، تعد جزءا رئيسا في أدبيات الثقافة الإسلامية والعربية، وتتجلى الحرية بأجل صورها، وأرقى مفاهيمها ومعانيها، في الآية 256 من سورة البقرة، حيث نزلت هذه الآية في فئة من الأنصار أرادوا إكراه أولادهم على الدخول في الإسلام، ومنها يتبين أنه لا يمكن إجبار أحد على الدخول في دين الإسلام ما لم يكن ذلك بالاختيار والرغبة، طواعية دون جبر أو ضغط من أحد مهما كانت صلته بمن يراد إدخاله في دين الإسلام، يفهم من هذا، أن الحرية في الثقافة الإسلامية حق مكفول معتبر، حق مضبوط منضبط بمعايير تحقق للفرد كرامته، وتنسجم مع إنسانيته، ولا تقصر عن حاجاته الفطرية، كما أنها تحقق للمجتمع أمنه واستقراره، وبالتالي لا مجال للمزايدة باعتبار ما يتم في المجتمعات الأخرى وأخص الغربية منها المثل والقدوة في مفهوم الحرية وممارستها.
البعض من المشدوهين بالليبرالية الغربية، إما أنه لا يعي مفهوم الحرية في الثقافة الإسلامية والعربية، أو أنه يعي ذلك، لكنه يعدها دون طموحه، وتصادم خياراته الجامحة وغير المنضبطة بأي إطار، لهذا يتطلع إلى الحرية بمفهومها في الثقافة الغربية، كي يمارس الحرية وفق الصور التي يشتهيها أو شاهدها أو سمع عنها هناك، وهي حميدة في القليل من صورها وممارساتها، لكنها في منتهى البشاعة و الإسفاف في الكثير من الصور والممارسات التي تأنف منها أبسط معاني البشرية وأقلها تمدنا وتحضرا.
تعد الليبرالية المجلوبة بصورتها الغربية ذات الحسن المزيف محبطة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل هي مخيبة للآمال في نظر كثير من المتابعين، تجلى هذا وتأكد بعد عقود جاوزت الخمسين عاما من توطينها في عدد من المجتمعات العربية وهيمنتها الكاملة على مراكز السلطة والسياسة والثقافة والإعلام والمال، خابت الآمال في الليبرالية لأنها لم تحقق للشعوب أدنى ما يتطلعون إليه في الحياة الكريمة التي طالما داعب الليبراليون مخيلات البسطاء بمعالمها البراقة الزائفة التي غدت مثل السراب لا حقيقة لها ولا واقع.
إن المواطن البسيط أعلن بصراحة رفضه وانزعاجه من الواقع الذي تفشت فيه مفاهيم الليبرالية وطغت، رفضه وكشف زيفه وخداعه، بعد أن ضاقت به السبل، وتعذرت عليه إمكانات الحياة الكريمة حتى بأقل صورها واحتياجاتها، كشف المواطن البسيط هذا الواقع المؤلم المؤسف و فضحه في المسيرات السلمية المتواصلة التي أطلق عليها « الربيع العربي «، فيا ترى ما هي أبرز ملامح هذا الواقع؟ و ما أوجه النقص فيه؟ وهل انطلقت مسيرات « الربيع العربي « رغبة في المزيد من المشاركة السياسية؟ أم بسبب الضيق من استئثار فئة قليلة بالمال؟، أم بسبب تفشي صور الفساد التي لا تخطر على بال حتى إبليس؟ صور انتفخت من نتنها بطون، وتعفنت جيوب لدرجة لا يمكن تحملها والصبر عليها فضلا عن تقبلها والتعايش معها.
فعلى الصعيد السياسي سوغت سياسات الخنوع والاستسلام، وروج لها باعتبارها الخيار الممكن، من أجل تقبل الوضع الراهن والرضا به، و تم تزييف الحقائق باعتبار أوجه الهزائم من صور البطولة والانتصار غير المسبوق، إنهم يجيدون قلب الحقائق، حيث يقلب الباطل حقا، والحق باطلا، إنهم يجيدون صناعة ما يتوافق مع رؤاهم وتطلعاتهم حتى وإن كان مخالفا للواقع.
وفي الثقافة انقلاب وانفلات، انقلاب على القيم وتخل عن الأخلاق، وانفلات في تصوير غرف النوم وما يتم فيها من ممارسات صورت أحداثها وعرضت في روايات يجمع بينها تعرية الجسد والتمتع به خارج الأطر الشرعية المعتبرة، وبما يتنافى مع كل الأعراف والقيم والأخلاق، كما مجدت أخبار التعري وكشف المستور، وكذا الحال بالنسبة للذين لا يمتلكون من مقومات الإبداع والنفع سوى الجري وتحريك الأرجل والأقدام والتلاعب بالأعصاب وهدر الأوقات.