نعلم جميعاً أنه لا يخلو أي مجتمع في هذه الدنيا -قديماً وحديثاً -من نزوع بعض أفراده إلى السلوك الفاسد. ولكن المجتمعات تختلف فيما بينها وعبر الحقب التاريخية- من حيث درجة تفشي هذا السلوك وعمق تأثيره، ومن حيث الكيفية التي تتم بها مكافحته. أهون درجات..
... الفساد هي أن ينحصر في حالات فردية نادرة أو ذات تأثير محدود، قد تظل مستورة أو تنكشف فيعاقب صاحبها بما يستحقه. وفي كلتا الحالتين -الستر أو الانكشاف- تبقى مسألة فردية لا يتعدى تأثيرها ذوي العلاقة المباشرة. لكن الحال يتبدل إذا خرج السلوك الفاسد عن نطاق المسألة الفردية إلى نطاق اجتماعي أوسع يمسّ المصلحة العامة أو المال العام أو النظام الاجتماعي. والظروف والعوامل التي تحوّل حالة فردية يمكن احتواؤها إلى حالة عامة أو ظاهرة تنذر بالخطر معروفة وتظهر في صور متنوعة مثل:
- تفشي الفقر وشعور الفرد بضيق ذات يده عن بلوغ ما يتمتع به أوسط الناس.
- تراخي سلطة الدولة وانفلات الانضباط وعدم تطبيق القوانين.
- تكالب أهل النفوذ على تقاسم ثروة البلاد من خلال استغلال النفوذ والسلطة.
- انحلال القيم الأخلاقية والدينية وفقدان القدوة الحسنة المؤثرة في المجتمع.
- النظام الاقتصادي المتفسخ بما يوفره من ثغرات للوصول إلى الثروة.
ولا لزوم -هنا- لاستعراض نماذج أو ضرب أمثلة لذلك، فمن يقلب صفحات التاريخ أو يطلع على أحوال الأمم والشعوب في الوقت الحاضر يجد بغيته. لكن ما أود الإشارة إليه هو أنه مهما تنوعت الظروف والعوامل، فإنها تشترك في خاصية اختفاء دور الرقابة وتأثيرها.
إن القاعدة الأساس التي ينطلق منها دور الرقابة هي الرقابة الذاتية (أي الضمير) فعندما تضعف ينتج عن ذلك فساد الذمة، ثم تتضاعف النتائج عندما تكون الرقابة النظامية (المتابعة -المحاسبة- تطبيق القوانين) هزيلة أو متراخية، ثم يصبح الفساد ظاهرة متفشية في المجتمع عندما تنعدم الرقابة الاجتماعية بسبب وضاعة الأخلاق وتسطح القيم المتعارف عليها وسيادة الجهل وهشاشة الروابط الاجتماعية.
إن هذا التدرج الهرمي في آلية نمو الفساد يحدد معالم الطريق الموصل إلى حماية النزاهة ومكافحة الفساد. فإذا كان وعي المجتمع وتماسكه قويين، فذلك كفيل بكشف مواطن الخلل في الرقابة النظامية ويسهم بل ويلح في تفعيلها. وعندما تكون أساليب الرقابة النظامية تبعاً لذلك قوية وفعالة يصبح خلل الرقابة الذاتية (فساد الذمة) منحصراً في حالات فردية أو مكبوتاً بفعل التخوف من العقاب ومن عيون الآخرين. وكل أنواع الفساد (الخلقية والمالية والإدارية) في ذلك سواء.
وفي كثير من بلدان العالم المتقدم نشاهد نماذج من تأثير وعي أفراد المجتمع وهيئات المجتمع المدني وقدرة هذا الوعي على إثارة انتباه الرقابة النظامية التي تتولى عندئذ التدقيق والتحقيق، ثم لا تتوانى عن محاسبة مرتكبي أفعال الفساد -أهونها وأخطرها، ولا تفرق بين الشريف والضعيف بصرف النظر عن مقاماتهم ومراكزهم في الدولة. وعلى سبيل المثال تعرض- كما هو متداول في وسائل الإعلام -جاك شيراك- رئيس جمهورية فرنسا السابق -للمحاكمة بتهمة سوء التصرف في وظائف بلدية باريس- عندما كان رئيساً لها قبل عشرين سنة. وقد قضت المحكمة مؤخراً بثبوت التهمة. وفي مجلة (دير شبيجل) الألمانية نطلع على نماذج متنوعة من ممارسات فاسدة. فمثلاً تلاحق رئيس جمهورية ألمانيا الحالي مساءلات بشأن استفادته من مركزه السابق كرئيس لوزراء ولاية سكسونيا السفلى. فمرة حول حصوله من أحد البنوك على قرض لبناء منزله بشروط تفضيلية. ومرة حول تدبير مقاعد لبعض أفراد عائلته في الدرجة الأولى بإحدى الطائرات مع أن التذاكر لدرجة أقل، ومرة حول قضاء إجازة خاصة في منتجع لأحد أصدقائه الأثرياء. وهي عموماً مخالفات تبدو ظاهرياً هيّنة، لكنها في نظر مجتمع يحترم القانون ويطبقه ليست كذلك. ومن النماذج الني نشرت عنها المجلة نفسها قيام مدير أحد البنوك الاتحادية السويسرية ذات العلاقة بأسعار تداول العملات بالاستفادة من مركزه في بيع وشراء العملات من خلال حسابه الشخصي في أحد البنوك الخاصة. وقد أدى الكشف عن ذلك إلى استقالته. ومثل هذه الحالات يتم اكتشافها من خلال معلومات يسربها أحد الموظفين. وقد يتعرض الشخص المبلغ إلى الإيذاء إذا لم تتوافر الحماية القانونية. وقد أوردت المجلة نفسها مثالين لذلك. فقد كشفت إحدى الموظفات في سويسرا عن أوضاع سيئة في أحد مراكز الإعانة الاجتماعية لكن القضية انتهت باتهام الموظفة بكشف أسرار العمل وفصلت من عملها. وهو المصير نفسه الذي انتهت إليه موظفة ألمانية كشفت عن تقصير فاضح بإحدى دور إيواء المسنين. وفي كلتا هاتين الحالتين تم الكشف من خلال بلاغ صريح في صيغة شكاية وليس بتسريب خفي للمعلومة. وفي الغالب تتمثل الحماية المطلوبة في حالة التسريب لمعلومات تتعلق بالفساد في إخفاء اسم المبلّغ، إذا لم تتوافر حماية قانونية تدفع عنه الضرر. وفي كثير من البلدان تمنح مكافآت لمن يدل على ممارسات فاسدة، كما في الولايات المتحدة حيث تدفع مكافأة مجزية لمن يبلغ عالحالات التي تؤدي إلى فرض عقوبات مالية، أو في المملكة حيث تمنح مكافأة مجزية لمن يكشف عن جرائم مالية مثل التهريب أو الرشوة أو نحوهما. وغني عن البيان أن حكومة المملكة العربية السعودية تضع مكافحة الفساد في قمة أولوياتها. فقد أصدر خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- في 13-4-1432هـ أمراً ملكياً بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. ثم صدر بعد ذلك تنظيم الهيئة في 28-5-1432هـ الذي نص على ارتباط الهيئة مباشرة بالملك وأنه ليس لأحد التدخل في مجال عملها وأكد استقلالها التام مالياً وإدارياً فأنشأ بذلك أهم مقومات نجاحها من الناحية القانونية. ولتحقيق هدف الهيئة المتمثل في حماية النزاهة ومكافحة الفساد المالي والإداري بشتى صوره ومظاهره وأساليبه فقد أعطى التنظيم للهيئة صلاحيات واسعة من خلال ممارسة الاختصاصات التالية:
- التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود الأشغال العامة وغيرها من العقود المتعلقة بالشأن العام ومصالح المواطنين في الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة وهي الجهات العامة في الدولة والشركات التي تملك الدولة فيها نسبة لا تقل عن 25% من رأسمالها.
- مراجعة أساليب العمل وإجراءاته في تلك الجهات بهدف تحديد نقاط الضعف التي يمكن أن تؤدي إلى الفساد والعمل على معالجتها.
- مراجعة الأنظمة واللوائح ذات الصلة لمعرفة مدى كفايتها والعمل على تطويرها واقتراح الأنظمة والسياسات اللازمة لمنع الفساد ومكافحته.
لا جدال في أن هذه الاختصاصات الرقابية قوية وقادرة على تفعيل دور الرقابة النظامية (بالتنسيق والتعاون مع الجهات الرقابية الأخرى - كما ورد في التنظيم). وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن ممارسة هذه الاختصاصات تحتاج إلى أكثر من المقومات القانونية فلا يمكن التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود الأشغال العامة ونحوها - وخاصة تلك التي تكلف مئات الملايين- دون أن توجد المقومات الفنية من قوى عاملة متخصصة وغيرها.
على أن تنظيم الهيئة لم يغفل تعزيز الرقابة الذاتية لدى أفراد المجتمع فجعل من اختصاصاتها نشر الوعي بينهم - الأمر الذي دأبت الهيئة على تنفيذه منذ فترة. إلا أن هذه ليست مهمة الهيئة وحدها، فلا بد من قيام مؤسسات المجتمع الأخرى بدور إيجابي في هذا الشأن. ولذلك صار من أهم اختصاصات الهيئة التي تضمنها التنظيم -بل إنه في رأيي يأتي في المقام الأرفع- أن تعمل على نشر ثقافة عدم التسامح مع الفساد في المجتمع وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني والإعلام على التعاون والمساهمة في ذلك. فلا ريب أن ذلك كله كفيل ببناء الرقابة الاجتماعية التي لا تترك مجالاً للسكوت والتستر أو التحايل والخداع.
وفي مجتمعنا مجال خصب للقيام بهذا الدور من خلال مؤسسات التعليم والمساجد والمجالس المحلية والجمعيات المهنية والأهلية والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وسيكون المجتمع بأسره متفاعلاً مع هذا الدور لأنه منسجم مع مثله وقيمه التي يؤمن بها.
يحق للمواطن إذن أن يتفاءل عندما يرى ما توافر للهيئة من مقومات للنجاح تمثلت في استقلالية العمل وسمو المرجعية والأهداف ووضوح الاختصاصات وما أعطي للهيئة من صلاحيات، ويأمل في استكمال بقية المقومات الفنية، أما الحكم على فعالية جهود المكافحة فإنه يصدر في ضوء ما يتحقق من نتائج.
إلا أنه يحق للمواطن أيضاً أن يتساءل عن دور الهيئة في مكافحة الفساد وحماية النزاهة في مجالات العمل التي تمارسها الجهات الخاصة والشركات التي لا تملك فيها الدولة أي شيء أو في مجال العمل الخيري فإنها مجالات غير محصنة ضد الممارسات الفاسدة التي تضر بمصالح المواطنين وتؤدي إلى ضياع حقوق أو نهب مستحقات والحديث يقصر عن الإلمام بكل أشكال الكسب الحرام.
وسواء تعلق الأمر بالقطاع الحكومي أو شبه الحكومي أو التجاري أو الخيري فإن في حماية النزاهة معنى الأمر بالمعروف وفي مكافحة الفساد معنى النهي عن المنكر.
alkami@ksu.edu.sa