المشهد كالآتي: الساعة: العاشرة مساء من يوم الجمعة الماضي، والمكان مطعم مكدونالد للوجبات السريعة تقاطع الملك عبدالله مع عثمان بن عفان في مدينة الرياض. المطعم مقسم إلى قسمين: للعائلات وللرجال. أقف أمام المحاسب بجوار ابنتي لتحرير الطلب وأرى خلف المحاسب ما لا يقل عن 15 عاملا فليبنيا يتراكضون كالنحل لتلبية طلبات الزبائن الكثيرة في نهاية نهار الجمعة.

..وفجأة، ومن قسم الرجال حيث يفصل بيننا حاجز خشبي. انطلق صوت شاب سعودي صارخاً بمن كان أمامه من العمال المساكين:

«بسرعة.... بسرعة.... أنا كلام يا فار... ناجيت.. أقولك يا حمار ناجيت وبطاطس.. أنت كم حساب؟ هالفار اللي انتم حاطينه.. لعن أبوكم كلكم.. ها الفار الأبيض... حمار»؟؟!!!

أسرعت إلى قلمي وقلبت ورقة المنيو على الخلف وبدأت في تسجيل كلماته السامة في حين استمر هو في لغو مذهل لا يمكن تسطيره في جريدة سيّارة.. كل ذلك دون أن يتمكن العمال المساكين من التفوه بكلمة لإيقافه. رأيت لوعة القهر في عيون شباب صغار أذلتهم الحاجة لراتب صغير كهذا مقابل ساعات عمل تنتهي دوما بمذلة مركَّبة ممن يقدمون لهم الخدمة: فلماذا؟..وهل يقوى هذا المتنمّر على فعل ما يفعل لو كان في دبي مثلا أو لندن أو في العاصمة الأمريكية دي سي حيث تجمعات السعوديين؟ سيجد نفسه حتما محاطا بالشرطة وسيرمى خلف القضبان لزمن حتى يتعلم كيف يسلك في الأماكن العامة والسؤال: لماذا يتجرأ ويفعلها هنا؟

ما الذي يجعلنا نصطدم بتيار الفوقية والشعور بدونية الآخر في كل موقف في الشارع.. في المدرسة في المجمعات التجارية وحتى في الاستراحات العائلية؛ حيث تعيش فئات بشرية منسية من الإخوة المصريين والهنود مهمتها تسهيل حياة من يأتون إلى هذه الاستراحات في نهايات الأسبوع، وتحمل غلاظة الصغار والكبار ومن شابههم؟

ما الذي فعلناه؟ نجحنا ولله الحمد في إقامة هذه المدن العملاقة ونشرت الإحصاءات التي أظهرت أن الرياض وجدة من أكثر المدن نموا في العالم، لكننا نسينا تربية الإنسان داخل هذه المدن. نقلناه من وحشية الصحراء إلى وحشية المدن، وشيدنا له هذه الأبراج العالية والعاجية ليسكنها وحده وينظر إلى العالم من فوق ويقهقه فوق ركام استهلاكه المادي للثروات القومية لوطنه ولركام الجهد البشري لقوة العمل الكادحة من شباب الشعوب الفقيرة، وبين الفينة والأخرى، وحين يبلغ حداً أعلى في تناقضاته الذاتية والاجتماعية والثقافية والدينية.. لا يجد عنده أضعف من هذه المخلوقات الضعيفة التي تحاول الحفاظ على لقمة عيشها، فيوسعها ما يشاء من إهانة وتحقير وهو يعرف أن ذلك وحتى لو كان غير مقبول اجتماعيا أو دينيا في المستوي المثالي إلا أن الكل يمارسه فعليا أو ضمنيا، ولن يلاحقه القانون ابداً بتهمة التمييز أو الكراهية العنصرية.

فئات الشباب التي ترخي أبلها؟ عفوا أقصد سياراتها قرب هذا الماك أو تجدها في شارع التخصصي كما لا شك أنها تتناثر في كثير من مدن المملكة تتميز بمواصفات عجيبة تستحق التتبع والتأمل فهي صغيرة وشابة، وفي الغالب متهورة في القيادة، أو ما يسمى باللغة الانجليزية (ريكلس درايفينك).

هل هذه سمات هذا العمر بشكل عام؟ ربما نعم، لكن حتى في هذا السن لا يتمكن المراهق في شارع باريسي أو أمريكي أن يفعل ما يفعله الشباب المراهقين مثلا حول المجمع الجديد الذي افتتح مؤخرا في شارع التخصصي بالرياض (بانوراما) لوجود قوانين واضحة توفر الحماية في الأماكن العامة ولا تسمح بتعريض النفس أو الآخر للخطر كما يفعل هؤلاء الشباب بسلوكيات خطرة في قيادتهم المستهترة لسياراتهم أو تدليهم منها أو خلافه من الصور المحزنة التي أراها تتكرر كلما ذهبت إلى شارع التخصصي التعس؟

هل أحد مسببات ذلك هي نحن: العائلة السعودية الجديدة؟؟ (أؤكد :أحد الأسباب)؟ أقصد أمهات وآباء هذا الجيل؟ أنا أرى أن الكثير من جيلي ولأننا عشنا طفولة بسيطة وأحيانا صعبة في بيوت بسيطة لم تتح لها كل هذه المقدرات ثم تمتعنا فجأة بكل مقدرا ت النفط التي لم يعرف أهالينا كيف يستهلكونها بطريقة (مدنية) (من العيش في المدينة) فعملنا جهدنا على أن نمنح كل شيء لأطفالنا دونما حساب بحيث خلطنا بين الحب والمبالغة في العطاء، ودفعنا هؤلاء الشباب لتخطي الحدود الدقيقة الفاصلة بين الحق وخلافه في كثير من القيم اليومية المعاشة؛ فعلي سبيل المثال ولاعتقادنا بأننا نريد أن نعوضهم قسوة الماضي والمدرسين والقسوة مع الطفولة التي عرفناها بشكل عام بالغنا في (التدليع) والديمقراطية حتى ضيعنا مشيتنا ومشيتهم معا فلم يفرقوا بين الاحترام وقلة الأدب في تعاملهم مع الكبار، كذلك ظهر هذا التناقض والقلق في رغبتنا في توفير كافة السبل لإمتاعهم فخلطنا بين اللهو والمتعة البريئة وبين تعريض النفس للخطر، ولعل لنا في حوادث دبابات الثمامة في مدينة الرياض وأتوقع على شواطئ البحر في جدة وبشكل آخر في مدن أخرى من السعودية خير دليل عدا قتلى حوادث السيارات من الصغار الذين سلموا هذه الأدوات الخطرة دون أن يتعلموا القيم المرتبطة باستخدامها فهلكوا.

وديكورية حياتنا اليومية وعدم مساهمة أعضاء الأسرة في تصريف شؤونها لوجود الخدم والسائقين أتاح الوقت لشبابنا ليغرقوا في ألعاب الكمبيوتر حتى وصلوا إلى حد الخلط بين العالم الافتراضي الذي (يتسدحون) فيه لساعات وساعات أمام الشاشات وبين العالم الواقعي الذي يعيشونه فركضوا بسياراتهم في شوارع المدن كما لو كانوا يلهون بلعبة كمبيوتر، وأزهقوا الأرواح والممتلكات وأغرقناهم بالمال والوجبات السريعة حتى يستمتعوا مع أصحابهم فانقلبوا إلى طلب الحبوب وترهلوا من السمنة، ولم يعرفوا معنى الإرهاق والتعب والكد للحصول على لقمة.. ثم بعد.... كيف لي بعد ذلك أن أستغرب أن يصيح هذا الشاب في العمال الأجانب باستهتار ولا مبالاة بكل قيمة إنسانية طالما هو يعيش في عالم لم يساهم في بنائه أصلا.. عالم غير واقعي ترفرف عليه قيم الاستهلاك واللا واقعية..قيم لم يساهم في صنعها أو المحافظة عليها.