في لُجِ ديناميةٍ حُبلى بحساسياتٍ سياسية وأيديولوجية.. وتحت وطأةِ أحداثٍ متلاحقة وظروفٍ متباينة تشهدها الساحة الدولية وما يتبع ذلك من تصاعد في نبرة الصراع.. كثيراً ما يتردد على مسامعنا مصطلح [مؤامرة] تتداوله وسائلُ الإعلام المختلفة وتَلوكُه ألسنة المحللين بمختلف أطيافهم وفئاتهم وأجناسهم وليس
إلى هذا الحد فقط.. بل شاع وانتشر أيضاً في أوساط النخب الثقافية والاجتماعية حتى الأطفال لم تسلمْ ألسنتهم فأجادوا ترديدَه وبرعوا في صياغته وتحدثوا عنه بلغة الباحثين.. بات هذا المصطلح جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياة كثيرٍ من البشر لكثرةِ تداوله..!! فهل مصطلح [المؤامرة] مسلمة من مسلمات العقل الإنساني...؟
لنكن أكثر واقعية وبجدارة... ونعزل كل الأسباب الذاتية المعيقة والمتعلقة بكافة الشعوب والأنظمة التي تحكم هذه الشعوب ونعود إلى الإطار التاريخي.. نقرأ السطور قراءة عقلانية ونربط بين وقائع البدايات ووقائع الحاضر نجد أن المؤامرة رافقت بدء الوجود البشري في هذا الكون.. فهي إذن جزء من الطبيعة البشرية منذ أن عُهِد لها بوجودٍ اجتماعي على وجه الأرض ولم يكن قتلُ قابيل لأخيه هابيل حيث الصراع ما بين الحق والباطل.. إلا نوعاً من أنواع المؤامرة البشرية.. ما لبثت أن امتدت خيوطها عبر القرون وأتقنت حياكة تفاصيلِ جزئياتها أصابعُ الكثر من المندسين في دهاليز الزمن بطرقٍ مختلفة ومضامين متعددة أدت إلى تضليل العقول.. ومصادرة الأفكار.. وصراعات المكاسب المادية.. وسقوط دول وهيمنة دول أخرى.
المؤامرة أياً كان نوعُها أو مضمونُها هي حقيقة ثابتة لا يمكن إنكارُها ومن الخطأ أيضاً تجاهلُها أو إغفالُها تماماً حال وجودِ ما يُشيرُ إليها من شواهد ودلائل.. لكن لا يعني هذا أنها تقف وراء كل تصرفٍ أو حدث.. ومهما أشيع وانتشر بين الأنظمة أو الشعوب في جميع أصقاع العالم ومهما كُشِف عنها من حقائق فقلة أولئك الذين ينظرون إليها نظرة ذات أبعادٍ شمولية تمس جميع الأطر سياسياً وثقافياً واجتماعياً فالغالبية تنظر إليها من منظورٍ ضيقٍ محدود.. ولعل مثالاً بسيطاً في هذا السياق يربط الفكرة بأرض الواقع.. جميع المجتمعات العربية والإسلامية على اختلاف أطيافها وزمرها تعتقد أن المؤامرة تتمثل فقط في إسرائيل وحدها رغم وجود مؤامراتٍ أخرى تَعَرضَ وما زال يتعرض لها العرب والمسلمون في مختلف أنحاء العالم.. وهذا واقعٌ ومشاهد.. بالمقابل نجد أن الغرب يعتقد أن المؤامرة تتمثل في العرب والمسلمين الإرهابيين.. وأن أوطانهم هي المنابع التي يتسلل منها الإرهاب.
إن الوقوع فيما يسمى بنظرية [المؤامرة] لا يقتصر على مجتمعٍ دون مجتمع ولا ثقافة دون ثقافة... ولكن أينما وُجِد الوعي المنحرف وصاحبه العَجْز والشك.. تبرز هذه النظرية كخامة سهلة التشكيل والتبلور.. للخداع والمداهنة ثم التلاعب بها على مسرح الأحداث وميادين الصراعات... وفي عصر مثل عصرنا بلغت الصيغ التآمرية سياسياً وثقافياً واجتماعياً من القوة والانتشار وسرعة التناول حداً خرافياً.
وبنظرة تأملية فاحصة إلى واقع عالمنا العربي وما يشهده من أحداثٍ متسارعة.. يتضح أن ثراء الوعي التآمري ومركزية السيادة لبعض الأنظمة العربية شَكَّلَ بحدِ ذاته مؤامرة قوى طاغية مستبدة.. ضللت عقول شعوبها ثم ضربت بعرض الحائط كل موازين الحق والعدل والشرعية.. لكن عقود الاستبداد لا يمكن لها أن تستمر فعندما ينكسر حاجز الصمت وتنفجر شرارة اليقظة بعد سباتٍ طويل من المعاناة تحترق مؤامرة الأنظمة الفاسدة المستبدة.
وإذا كانت بعض الشعوب العربية قد ابتليت بأنظمة تآمرية استبدادية.. فلا عجب أن يبرع الغرب أيما براعة لما يتميز به من تكوينٍ فكري يعتمد على التضليل السياسي وقلب الحقائق في رسم الخطط التآمرية ضد الشعوب العربية والإسلامية.. وما غزو الوعي والفكر العربي والإسلامي... والرؤية الإستراتيجية الغربية لتغيير ديموغرافية العالم.. إلا تجسيد واضح لأبرز ملامح هذه المؤامرات... ناهيك عن الإرهاب البيولوجي الناشئ من توظيفٍ للفيروسات المخبرية الوبائية.. القاتلة لملايين البشر حيث أثبتت نجاحها بعد تجربتها في المجاهل الإفريقية.. فهل يغيب عن أذهاننا [إنفلونزا الطيور والخنازير].. ؟؟!!! إن التعمق في قراءة الواقع السياسي الغربي ومجمل الأحداث التي ترافق هذا الواقع، يجعلنا ندرك حقيقة المخططات الإستراتيجية التي تتقن رسمها كواليس السياسة الغربية.
المؤامرة واقعة ولا يمكن إنكارها بل إنها دينامية العقل في مختلف الصراعات لكنها تعاظمت في عصرنا الحالي فالعُصب التآمرية وصيغ التآمر متعددة وأكثرمن أن تحصى.. ونصبُ الفخاخ والتآمر ما زال مستمراً والمعضلات والحماقات السياسية التي يقع فيها العرب والمسلمون هي طرف الخيط الذي يُمسك به الأعداء فإما أن يحيكَ منه حدثاً خارقاً وغير متوقع أو أنه يستغل أحداثاً ويحرك مسارها كيف يشاء لاختزال المسافات والفواصل الزمنية.. وبالتالي يتمكن من بسط النفوذ والهيمنة والسيادة الكونية.