قصة قديمة (تراثية) قد يكون في إعادتها فائدة لتذكير أجيال معاصرة ولاحقة بالمغزى من حفظها وروايتها لا سيما إذا حلّت أيام شتاء قارصة البرد، ذلكم أن فتياناً صغاراً يمرحون كعادتهم في شوارع الحي وبينهم واحد من أسرة فقيرة وكان إذا تراكض الصغار بنشاط وهمّة يتعثر هو ويسقط أرضاً في بعض المسالك إذ إن صحته لا تساعده على الجري والمناورة كما يفعل الأطفال من أقرانه ممن اكتملت صحتهم وقويت أجسامهم نتيجة التغذية الجيدة نظراً لحالة أسرهم الميسورة, وذات صباح عاد الطفل إلى أمه خانعاً مكسور الخاطر؛ فسألته السبب؟ فأجابها أن أحد الأولاد قال له حينما تعثر وهم يتسابقون: اذهب لأهلك وكل قشداً وحنينيً، ثم تعال والعب معنا! نعم هذا منطق معقول من طفل لا يدرك أبعاد ما تلفظ به وآثاره السلبية السيئة على صديقه الفقير, فهو إنما يتحدث قياساً على ما يجده من بحبوحة العيش ولم يسعفه إدراكه للالتفات لأوضاع غيره ممن حوله، ولا يلام الصغار بقدر ما يلام الكبار الذين تأتيهم مثل هذه الرسائل الواضحة المباشرة التلقائية من طفل طاهر ألقى الكلم دون حسبان, فكما قالت العرب: الذي لا يعرف الألم يستهين بالجروح! والصورة ذاتها الآن هي بيننا لمن أراد أن يتفكر ويتدبر ثم يسعى لفعل الخير, فكم طفل لا يعرف اللعب مع أصحابه لقسوة الشتاء عليه، وكم بنيات كالأفراخ العارية يقتربن من أمهاتهن طلباً للدفء إذ لا غير دفء ينبع من حضن الأم إذا شحّت الملابس واللّحف وعزت المدافئ والوقود، وقبل ذلك قلّة الموارد لجلب غذاء صحي يشع دفئاً في الأجساد النحيلة الضعيفة ليمنحها قدرة على التفاعل مع المحيط الاجتماعي، إنها مواسم للبذل والعطاء تفتح أمامنا نوافذ الأمل بجني الخيرات ورصد الدرجات العلى والأرصدة الباقية عند عزيز مقتدر لا تضيع ودائعه, فهل نستبق الخيرات ونبادر إلى المعروف ونسعى لطرق أبواب المتعففين ممن لن يمدوا لنا يداً, فلنمدد لهم بسبب والوسائل متعددة ومتاحة دون جرح للمشاعر وامتهان للأنفس الزكية، ويا لعظم أجر من أدخل السعادة على نفس محتاج متعفف وأب عاجز أو أم أعيتها الوسيلة والأسباب, فقد قيل: كلما أعطيت بلا مقابل، كلما رزقت بلا توقّع، والرزق -من المولى- كما هو معلوم لا ينحصر في الدرهم والريال, فأسباب الرزق من الحليم الغفار لا حدود لها إذا أحسن العبد النية.
ومما ترويه كتب التراث أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه كان إذا حل الشتاء يوزع أكسية من قطائف على فقراء المدينة، وكان الليث بن سعد يطعم المحتاجين في الشتاء ألوانا من الهرائس بالعسل والسمن، وعرف عن أبي طالب القاضي أنه إذا رأى فقيراً في الشتاء ليس عليه دثار, نزع فروه وكساءه، والصور والوقائع قديما وحديثاً أكثر من أن تروى والمواقف النبيلة من المعاصرين تفرح القلب، فاللهم زدهم وبارك في جهودهم الخيرة الهادفة لكفكفة دمعة يتيم وحفظ ماء وجه متعفف.