ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 31/01/2012/2012 Issue 14369

 14369 الثلاثاء 08 ربيع الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

بعد إلحاح طويل ممن لا يرد لهم طلب، بدأت تَسْويد (السيرة الذاتية) ببطء وتردد واخترت لها مسمى: (تلك أيام قد خلت) ولقد أشرت من قبل إلى صعوبة تلك المهمة: صعوبة انتقاء للأحداث و صعوبة اختيار للمنهج، فالذين سبقوني بكتابة سيرهم تنازعتهم عدة مناهج، وتوازعتهم عدة اهتمامات،

وراوحوا بين الاطناب الممل والإيجاز المخل، وماكنت حفياً بمنهج دون منهج إذ لكل شيخ طريقته. ومن الخير للقارئ ألاَّ يستأثر منهجاً بالموقف، على أن بعض السير التي تملأ الرحب، قد لا تساوي المداد والورق الذي كتبت به، ولكنها تظل ملء العين والبصر عند أصحابها فـ(كل فتاة بأبيها معجبة). ولقد يحسن عند قوم ما هو قبيح عند آخرين، وقديما قيل:- (حَسَنٌ في كل عين من تود). والراصد لمراحل حياته، لو طاوع نفسه، لأخرج للناس عشرات المجلدات، فالوقوعات لا يعبأ بها الإنسان أثناء المعايشة، ولكنها تكون مهمةً حين يطويها الزمن، وكل شيء تبتعد عنه، يصغر في عينك، إلا الأحداث، فإنها تكبر، كلما باعد بينك وبينها الزمن، والناس في أحاديثهم يتولهون على الماضي ويقدسونه، وإن كان شحيحاً أو مدنَّسا. على حد:

ربِّ يومٍ بكيتُ منه فلمَّا

عِشْتُ في غَيره بكيت عليه

ولما لم يكن تاريخنا الإقليمي الحديث على ما يرام، فقد حفل بأحداث وحوادث جسيمة، اتسم بشح الموارد، وشظف العيش. وآباؤنا مروا بأيام عصيبة، ذاقوا فيها مرارة الجوع والخوف، والرواة والقصاص يحدثوننا عما مر بـ (نجد) من فقر وفاقة وخوف وفرقة وجهل وأوبئة، ولو أنها رصدت بالصوت والصورة، كما ترصد الأوضاع في (السودان) و(الصومال) لكان لها وقع أليم، ولكنها ظلت أحاديث يأتيها النسيان فينقصها من أطرافها، وقد يراها الجيل المترف من نسج الخيال، وجيلي مَسَّه في طفولته طائف من ذلك الشطف، إذ ولدنا في أتون (الحرب العالمية الثانية) وهي حرب مجنونة، غيرت مجرى التاريخ، ونسلت من تحت ركامها أوضاعاً تردت معها أحوال العالمين العربي والإسلامي. لعل من أسوئها، اقتسام الغنائم، وتفتيت العالم العربي، كما برز ساسة ماكرون، ومفكرون متشائمون، ونشأت في أعقابها فلسفاتٌ قلقة، ومذاهبُ مضطربة، كـ(الوجودية) و(الدادية)، وسائر النحل العبثية، والمقتفي للابداعات الشعرية والسردية، يلمس التحول الموضوعي والفني، وكأن الرفض للعنف امتد ليشمل كل وجوه الحياة، بما فيها الإبداع: شكلاً ومضمونا، وكل حرب ضروس، لا يقتصر أثرها على الأحياء والأشياء، بل يمتد إلى سائر القيم، وعمالقة الفن والفلسفة الذين تجرعوا مرارات الحروب الهمجية، جسدوا معاناتهم، ورصدوا تجاربهم، وأخرجوا للناس سيراً ذاتية، لا يمل قارئها. والحس السِّيري تلمسه عبر إبداعاتهم السردية وفي نظرياتهم الفلسفية، ولما لم يكن آباؤنا وأجدادنا على شيء من الإمكانيات التعبيرية، فقد تفلتت الأحداث، إلا ماثوى منها في كتب التاريخ، ولو رصدت كلها لكان لها شأن كبير. ولهذا يتطلع أمثالي إلى مبادرة النخب إلى تسجيل سيرهم بوصفها جزءاً من تاريخنا الحديث. وما يتطلع إليه القارئ المرتبك كـ(خراش) أمام تكاثر المعارف وتعدد المصادر وتنوع الثقافات، يختلف عما هو سائد، فكتَّاب السير الذاتية أمام تحديات كثيرة، وما لم يكونوا على مستوى المرحلة، فإن الزمن سيتجاوزهم، ثم لا يكون لهم أثر يذكر، ويكون مايكتبون من سقط المتاع، الذي لا يؤبه به.

ورجل مثلي نيف علي السبعين يعد من شهود العصر، بحلوه ومره، وعجره وبجره، ولست أشك أن كتَّاب السير كالمصورين، كل واحد منهم يلتقط صُوَرة من الزوايا التي تهمه، ولما كانت السير تمد بسبب إلى التاريخ، كانت أحوج ماتكون إلى المصداقية والدقة وانتقاء الأحداث المفيدة، والتخلي عن الحشو الممل ولاستطراد المخل، ولا سيما أن المتلقي أمام خيارات عدة، ومغريات مستبدة، وما لم يتوفر الكاتب على قدرات ومواهب وأحداث تثير وتقنع و تستميل، فإن الناس يمرون به وكأنه لا يعنيهم، وفوق هذا فإن السير الذاتية مفردة من مفردات الإبداع السردي، ومن ثم لابد من التوفر على أدبية النص، التي تعد معادلاً لشعرية الشعر، فالشعر لا يتحقق بالوزن والقافية، وإن كانا من سماته الرئيسة، بل لابد من الشعرية. و(الشعرية) مصطلح حديث، ليس وقفا على الشكل أو العمودية، وإن أخذ بشيء منها، كما لا يكون الشعر شعراً ما لم تتحقق الشعرية فيه، أما (الأدبية) فمصطلح تراثي، لا يكون النص أدبياً إلا بتوفر أدبيته، وعيب السرديات المعاصرة أن سوادها الأعظم، يفتقر إلى الأدبية بمفهومها الحديث، و(السير الذاتية) التي يدفع بها الناشرون، تقعد بها لغتها وفنياتها. ذلك أنها لا ترقى بكلماتها وجملها وعباراتها إلى الأدبية، وهي إذ لا تكون تاريخاً خالص التاريخية، فإنها بأمس الحاجة إلى فنياتها ولغتها الأدبية بإيجازها ومجازها وخيالها. و(الشعرية) و(الأدبية) من المصطلحات العصية على التحديد، والنقاد المبدعون، هم وحدهم الذين يميزون بين الأساليب المتأنقة، على أن من يفقد جاذبية الأسلوب، قد لا يفقد جواذب أخرى، وكم من سير ذاتية هابطة في أساليبها، ولكنها متألقة بأحداثها، وكم من السير الذاتية الخالية من الأدبية والحدث المثير، وإن تشايل معها النقد، واحتفت بها المشاهد، وتلك من عيوب المشاهد التي لا تُغْتفر .

وأمام طوفان السير المختلفة الأشكال والألوان، يجد القارئ نفسه مضطرة إلى الانتقاء واقتناء فائدة لغوية أو دلالية، وبقدر مودتنا كف البعض عن الهراء الفارغ من كل معنى، نود لو أن الرجال المليئين بالثقافة والخبرات، والمتوفرين على الإبداع مارسوا كتابة سيرهم، لتكون مجالاً للإمتاع والفائدة.

لقد مرت بلادنا بأحداث جسام، وخرجت من أزمات عظام، دون أن ينال مثمناتها نقص فادح، ووراء ذلك رجالات يمتلئون خبرة وحكمة وأناة، ومع ذلك قضوا نحبهم ولم يسجلوا حدثاً، ولم يشيروا إلى موقف، مع أن فعلهم جزء من تاريخ بلادنا، وضياعه ضياع للتاريخ. وإذا يقول الحداثيون: إن الزمن زمن الرواية، لاضطلاعها بمهمة تشكيل الوعي فإن السيرة الذاتية لا تقل عنها أهمية ولا قيمة.

إننا نكتب السيرة لنخلِّد الأمجاد ونربي الأجيال، ويبقى السؤال الحائر: كيف نكتبها؟ لقد ناشدت من رجالات الدولة تدوين ما أنجزوا من أحداث، والإشادة بمن وراءها، فالتاريخ إن لم يتداركه صانعوه، فإنه يضيع، وتضيع معه قيم كثيرة. فهل يتكلم الصامتون.

 

لماذا تكتب السير الذاتية وكيف تكتب ؟
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة