الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى مدرسة لكل من أراد أن يستفيد سواء كان في المجال العلمي والدعوي، أو في المجال السياسي، أو في المجال الحربي؛ أو الإنساني الاجتماعي، أو غير ذلك من المجالات؛ التي سأتحدث عنها بشيء من التفصيل في هذه الدروس التي أعتبر نفسي أول المستفيدين منها، فقد وفقني الله تعالى بإعداد رسالتي (أطروحتي) لمرحلة الدكتوراة في جهود الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى في خدمة العقيدة السلفية، وبحمد الله تعالى قرأت ما استطعت الوصول إليه أو اقتناءه من الكتب التي تم تأليفها في الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى؛ فوجدت أن شغل الملك عبدالعزيز الشاغل وهمه المتواصل هو الدعوة إلى العقيدة الصحيحة التي هي عقيدة السلف الصالح، والدفاع عنها بكل ما يستطيع، فقد امتاز رحمه الله تعالى بقوة الإيمان؛ وقد وصفه الملك فيصل رحمه الله قائلاً: «أول المزايا التي يتصف بها والدي قوة الإيمان، فما رأيته منذ نشأت قد ضعف إيمانه بالله أو تخلى عن ثقته بنصره».
وقد كان الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى يبين أهمية الدعوة لعقيدة السلف، فنراه يقول مبيناً أن عقيدته هي عقيدة السلف الصالح من قبله : هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب يدعو إليها وهذه هي عقيدتنا وهي : عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة، منزهة عن كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب.... إن المسلمين في خير ما داموا على كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة».
ويبين يرحمه الله تعالى بكل شموخ واعتزاز هذه النعمة العظيمة وهي نعمة العقيدة الصحيحة قائلاً: «والواجب علينا التفكر فيما أسداه الله - تعالى - علينا من النعم؛ باطنة وظاهرة، وما دفعه عنّا من البلوى والفتن. وتفهمون أن من أكبر نعم الله تعالى علينا نعمة الإسلام. وقد خصكم يا أهل هذه الأوطان بثلاثة أمور، نعمة منه وفضلا وبحوله وقوته، وليس لأحد فيها حول ولا قوة سواه : أولها نعمة التوحيد، وهي الحنيفية التي أثنى على خليله إبراهيم بها، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم وهي الحنيفية».
ثم يقول: «فمعلوم مدعي الإسلام كثير، ولكن الفرق بيننا وبين من ادعى الإسلام على جهل، ثلاثة أمور: وهي إخلاص كلمة التوحيد، والولاء فيها، والبراء فيها. وهي الملة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم وجاهد الناس عليها، فلما اندرست أو كادت أن تزول وفق الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب إليها، وساعده على ذلك محمد بن سعود رحمة الله عليهم وجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيراً».
ويؤكد على الثمرات العظيمة لعقيدة السلف فيقول: «بعد ذلك تعرفون أن الله سبحانه وتعالى حفظ هذه الأمة بقدرته ورحمته ثم باتباعهم ما جاء به رسوله صلوات الله وسلامه عليه وتقويم هذه الشريعة، فببركة الله ثم بركة التوحيد، وبركة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كان الناس في أرغد عيش، وأتم نعمة، وكل أمر يخل بالشرع ما فيه خير وآخره وبال على أهله».
ويقول رحمه الله تعالى مفتخراً بانتمائه لهذه العقيدة السلفية: «لست ممن يفخرون بألقاب الملك ولا بأبهته، ولست ممن يولعون بالألقاب ويركضون وراءها، وإنما نحن نفتخر بالدين الإسلامي، ونفتخر بأننا دعاة مبشرون لتوحيد الله -تعالى- ونشر دينه، وأحب الأعمال إلينا هو العمل في هذا السبيل، بأننا نلنا فخراً يزيد عن فخر الملك وأبهته. أجل؛ نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالي من كل بدعة، نحن دعاة للعروة الوثقى التي لا انفصام لها».
وهذه الجملة من خطب الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى تدل على عنايته بالدعوة إلى العقيدة الصحيحة، ويتضح من خلالها ذكاء هذا الملك الداعية وذلك القائد العظيم حيث بدأ بأهم الأمور وأعظم المهمات وهو الدعوة إلى التوحيد، وقد اتضح جليّاً من دعوة الملك عبدالعزيز لعقيدة التوحيد الكثير من الفوائد الهامة ومن أهم هذه الفوائد ما يلي :
1- أن الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى كان يعرض عقيدته السلفية بكل اعتزاز وشموخ، ولا يجد غضاضة في ذلك، وهذا منهج نبوي في بيان العقيدة؛ فإن من الخطأ أن يعرض الداعية ما يدعو إليه بضعف أو بخجل أو حياء مما يدعو إليه، فإن الدعوة إلى الله هو مما يفتخر الداعية به وليس مما يستحيي منه، وهذا ما فعله الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى، فقد دعا إلى الله تعالى بكل افتخار وشرف، ولذلك عندما حاول البعض تشويه الدعوة إلى عقيدة السلف باعتبار أنها مذهب جديد وأطلقوا عليه المذهب الوهابي أو الوهابيّة رد عليهم الملك عبدالعزيز بكل ثقة ووضوح قائلاً: «نحن لسنا أصحاب مذهب جديد؛ أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- بالجديد؛ فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح؛ التي جاءت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه السلف الصالح».
2- أن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى كان يصرح بحبه وانتمائه لعقيدة السلف، وهذا الأسلوب من الأساليب الرائعة في إقناع الآخرين، فإن الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى جاء في وقت انتشرت فيه البدع وبعض الوسائل الشركية والجهل بالعقيدة، وكان من المناسب أن يدعو هؤلاء الأشخاص إلى العقيدة الصحيحة، وكان من المهم أن يكون الداعي إلى هذه العقيدة هو من يعتقد بها حقيقة قبل أن يدعو الناس إليها، فأوضح الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى للناس عقيدته السلفية التي ينتمي إليها ويحبها ويدعو جميع الناس إليها.
3- أن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى بيّن تلك العقيدة السلفية التي يدعو إليها أيّ بيان وأوضحها غاية الإيضاح بكلمات مختصرة وعبارة موجزة يفهمها الجميع المتعلم وغير المتعلم فتعلم الناس العقيدة من الملك عبدالعزيز نفسه قبل أن يتعلموها من المعلمين أو المرشدين.
4- أن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى كان يستخدم الأسلوب المناسب فإذا كان المخاطبون من العامة استخدم بعض الكلمات العامية التي يفهمها أولئك المخاطبون، وإذا كانوا متعلمين استخدم الأسلوب الذي يناسبهم، وكان رحمه الله تعالى إذا تكلم بهر الألباب وأخذ بمجامع القلوب، يقول أحد أفراد الوفود التي استفادت من لقاء الملك عبدالعزيز رحمه الله عندما قابل الملك رحمه الله في عام 1348هـ،. وهو الشيخ غلام رسول مهر: «وبعد دقائق بدأ الملك في إلقاء خطابه، وبعد أن تلا قوله تعالى: لسورة الحجرات، الآية: 13، بدأ في شرح كلمة التوحيد، ثم شهدنا قوة بيان السلطان، وما يتميز به من سحر خطابي، وحماسة ومحبة للإسلام، ولمدة خمس دقائق غرق خمسمائة حاج من مختلف شعوب الأرض في أمواج هذا السحر الحلال الذي نتج عن براعة السلطان الخطابية».
5- أن الملك عبدالعزيز لم يكتف بالخطب والرسائل فقط في بيانه للعقيدة السلفية وإنما أرسل الدعاة وشجع العلماء على التدريس وافتتح المدارس التي تطورت شيئاً فشيئاً حتى أصبحت جامعات عديدة تمتلئ بملايين الطلبة من البنين والبنات، أسهموا ولا يزالون يسهمون في الدعوة لهذه العقيدة وبنائها الوطن العريق المملكة العربية السعودية التي أسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى على عقيدة السلف وهو موضوع درسنا القادم إن شاء الله تعالى.
- عضو الجمعية السعودية للعقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة
- مدير إدارة الشؤون القانونية بصندوق التنمية الزراعية