امتدّت جسور التواصل بيني وبين الصديق الراحل الدكتور عبدالقادر طاش -يرحمه الله- منذ أن كنت طالباً في كلية اللغة العربية، وكان هو سابقاً لي في الدراسة بسنوات أربع، فقد كان محبّاً للأدب، مغرماً بالشعر، كما كان ذا قَلَمٍ متصرِّفٍ في فنون النثر تصرُّفاً يعجب ويطرب، ثم انقطع التواصل بعد أن سافر إلى أمريكا لمواصلة دراسته، إلا من لقاءاتٍ عَبْر الكلمة ظلَّت ممسكة بحبل الصِّلة بين صديقين على مدى سنوات، وما لبث أن عاد بيننا التواصُل المباشر من خلال الرسائل بعد أن أرسل لي أعداداً من مجلة (الأمل) التي أصدرها مع مجموعة من المبتعثين في أمريكا وقد نُشِرَتْ لي في أعدادها التي وصلتني عدد من القصائد والمقطوعات الشعرية.
وحينما عاد من أمريكا عادت جسور التواصل إلى فتح بواباتها من جديد، وكانت العلاقة هذه المرة أعمق وأَثْرَى وأَنْضَج، لأن الإحساس بالأمة الإسلامية ومشكلاتها ومستقبلها أصبح أبعد غَوْراً في نفوسنا وأفكارنا، وأصبح الحضور الإعلامي صحافة وإذاعة وتِلفَازاً صفةً مشتركة فيما بيننا، ولاسيما أن الإعلام أصبح عنده تخصصاً، حيث حصل على الدكتوراه من أمريكا في أحد تخصصات الإعلام، وكان بارعاً في تخصصه، متقناً لأدواته، مؤمناً بدور الإعلام في التأثير القوي المباشر في قلوب الناس وعقولهم.
تعاونا في بعض البرامج التلفازية، خاصة برنامج (المجلة الإسلامية) في التلفزيون السعودي والتقينا في مجال الصحافة أعضاء في هيئة تحرير (مجلة الدعوة) السعودية التي كان يرأس تحريرها الشيخ (سعد الفريان) وفّقه الله.
لقد كانت فترة غنية باللقاءات الجميلة المثمرة في مجال التعاون الإعلامي، والاستمتاع بالمناقشات الفكرية والأدبية، والحوارات الجادة حول وضع أمتنا الإسلامية ومستقبلها، وكان فضيلة الدكتور (يحيى البسيوني) رفيق تلك اللقاءات.
تولّى الدكتور عبدالقادر طاش رئاسة تحرير جريدة (المسلمون) وعُني بها عناية فائقة، وكيف لا يَفْعَلُ ذلك وهو الإعلامي المتخصِّص والإسلامي المستبصر، والمثقف الواعي؟ وقد فتح أمامي صفحات الجريدة لأنشر فيها ما أريد من القصائد أو المقالات، ومع أنني كنت أكتب مقالات لجريدة الجزيرة والمسائية التابعة لها، وأنشر فيهما قصائدي إلا أنني كنت أبعث إلى الدكتور عبدالقادر ببعض ما أكتب بين فينةٍ وأخرى، وقد تعرَّفت في تلك المرحلة على صحفي ناشئ كان يتتلمذ على أبي عادل ألا وهو الأستاذ عبدالعزيز قاسم الذي أصبح الآن إعلامياً بارزاً وفيّاً لأستاذه القدير د. عبدالقادر طاش، وكيف لا يكون وفيّاً وقد كتب رسالة الدكتوراه عن الدكتور (عبدالقادر)؟ وهو - أيضاً - ذو وفاءٍ مشهود لأصدقائه وأصدقاء أستاذه.
ثم تولّى الدكتور عبدالقادر طاش - تغمده الله برحمته - إدارة قناة اقرأ (الفضائية)، حيث أنشأها وأخرجها - بتوفيق الله إلى الفضاء المفتوح، وكان التواصل بيننا كبيراً في آفاق الإعلام الفضائي من خلالها.
ما الذي ساقني إلى هذه الوَمْضَة من الذكريات، بعد موت صديقي العزيز أبي عادل بسنوات؟؟ إنه مَلَفٌ خاص بجريدة اسمها (المستقبل) يتضمن دراسة أوَّلية للجدوى الاقتصادية لمشروع إصدار جريدة المستقبل، ودراسة أخرى تشتمل على فكرة الجريدة وهدفها، وأقسامها وخطوات تأسيسها، مَلَفٌّ وجدته بين ملفاتي الخاصة أثار في نفسي شجوناً كثيرة، وأعاد إلى ذاكرتي عدداً من الصور التي التقطتها عَدَسَة التواصل بين صديقين التقيا على حبِّ دينهما وأمتهما، والإحساس العميق بما يجري في العالم من حولهما، وافترقا على ذلك؛ أما أحدهما وهو الدكتور عبدالقادر طاش فقد رحل عن الدنيا قبل سنوات تاركاً ذكراً حسناً وفكراً نيِّراً من خلال بعض كتبه ومقالاته وتلاميذه الأوفياء، وأما الآخر، فهو هذا الذي يكتب لكم هذه السطور وقد بقي في هذه الدنيا بعد رحيل صاحبه ليشاهد ما يجري في العالم من تحوُّلات عجيبة تؤكد أن الباطل يترنَّح، وأن الحقَّ يعلو ويجتاز سدود الباطل بصورة تثير الإعجاب، وتستوجب شكر الإله الوهّاب.
جريدة (المستقبل) رؤية صحفية واعية ظلَّت وما تزال حبيسة الأوراق التي كُتِبتْ فيها، لأن رئيس تحريرها المقترح د. عبدالقادر طاش - رحمه الله - قد تركها ورحل، فكرةً لم تجد طريقها إلى الظهور.
إشارة: كم تحملنا هذه الذكريات على أَجنحةٍ مُرَفْرِفَةٍ لا تعرف الوَهَن.