حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
(بنت الأعشى)
أورد ألكسيس كاريل في كتابه القيم (الإنسان ذلك المجهول) في معرض حديثه عن ظاهرة النشاط العقلي وسرعة الإدراك قوله (ولكن سرعة الإدراك يمكن أن تتوفر من ناحية أخرى، وهي مستقلة تماماً عن الملاحظة والعقل، فقد تقودنا إلى هدفنا، وقت لا نعلم كيف نبلغ هذا الهدف، بل حتى أين يوجد..، وهذه ا لطريقة من المعرفة تكاد ترادف البصر المغناطيسي، وهو الحاسة السادسة التي نادى بوجودها «تشارلس ريخت» إن البصر المغناطيسي، وتراسل الأفكار، معلومات أولية للملاحظة العلمية، وفي استطاعة من وهبوا هذه القوة أن يستشفوا أعمال الأشخاص الآخرين السرية، دون أن يستخدموا أعضاءهم الحسية، كما أنهم يحسون بالأحداث السحيقة، سواء من الناحية الفراغية، أم من الناحية الزمنية، وهذه الصفة استثنائية، وهي لا تنمو إلا في عدد قليل من بني الإنسان).
فهذه الطاقة المجهولة، طاقة الكشف عن المجهول، كيف تحصل؟
وهل لها مركز محدد في الدماغ؟
لم يثبت البحث العلمي حتى الآن ما يفيد أن لهذه الظاهرة، وظواهر أخرى مماثلة لها، في عالم الحيوان العجيب، مراكز محددة في الدماغ، فرؤية منظر من بُعد آلاف الكيلومترات، ظاهرة لا يمكن تعليلها في الحالات الطبيعية بالحواس المعروفة، فهنا يرى الشخص بعقله لا بمقلتيه (المجلة العربية - عدد12) وفي سياق استبصار المستقبل، لا يفوتنا الإشارة إلى قصة زرقاء اليمامة، حيث اشتهرت باستبصار أشياء، تبعد عنها إلى مسيرة ثلاثة أيام، وقصتها في هذا المقام معروفة، حيث ضُرب بها المثل العربي القديم (أبصر من زرقاء اليمامة)، (غرائب الحاسة السادسة) وقصة عمر رضي الله عنه مع سارية يوم صاح من فوق المنبر «يا سارية الجبل الجبل»، وبينهما مئات الكيلومترات، رأى عمر -رضي الله عنه- المشركين يحيطون بسارية، فأشار إليه أن يلزم الجبل، وسمع سارية صوت عمر فنفذ أوامره، وكان النصر للمؤمنين.
إنها قصة حقيقية متواترة، يحرص المسلمون على اعتبارها كرامة للصحابي الجليل، ولا شك في ذلك، ولكن ألا يمكن اعتبارها من الحاسة السادسة؟ وهي طاقة خفية في الإنسان، تظهر في بعض الأفراد في أوقات معينة، فتثير في عامة الناس تساؤلات كثيرة عن ماهيتها، وأسباب حدوثها، وهي من الأسرار التي أودعها الله في هذا المخلوق العظيم (الإنسان) {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (المجلة العربية عدد 12)، وينسب الباحثون في هذه المجالات جانباً منها إلى طاقة بشرية غامضة كامنة فيما وراء النفس، ومصدرها الروح المتغلغة في خلايا المخلوق الحي، وقد أثبت العلماء بأبحاث معملية، وجود هالة نورانية، تحيط بجسم الإنسان المادي، وتغيب عنه إذا فارق الحياة أو بمعنى أصح، يفارق الحياة إذا تخلت عنه، وقد قال عنها الإمام الجليل ابن القيم ما نصه «الروح جسم مخالف بالماهية للمجسم المحسوس، وهي جسم نوراني علوي خفيف متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسرى فيها سريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون، والنار في الفحم».
وإذا كانت للأشعة الصناعية بأنواعها المعروفة آثار طبية لا تخفى على أحد، فلا عجب أن تكون للطاقة الروحية آثار علاجية، يهب الله قواها لمن يشاء من عباده، فيمارس العلاج الروحي، وأن تكون للطاقة استشفافية، فيرى بومضات روحية، ما لا يراه غيره على بعد الزمان والمكان، وسبحان الله القائل {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (غرائب الحاسة السادسة).
إن ميدان الحاسة السادسة بقي مدة طويلة مغلقاً أمام الباحثين وعلماء النفس، ولاسيما وأن هذه الأمور تفوق قدرات الإنسان المتمثلة في حواسه الخمس، ولكن هذا الميدان بدأ الآن يحتل مكاناً هاماً لدى بعض العلماء الذين أخذوا بتحري دقائقه، وبإعطائه الصبغة، وإحلاله المكان الهام، واللائق به، إنهم لن يترددوا بعد فترة من الزمن من أن يتصوروا أن بإمكان الفكر أو العقل أن يقطع المسافات والزمن.
إن دراسة الظواهر النفسية يتطلب الكثير من الجهد والوقت، وما زلنا في هذا الميدان في مستهل الطريق، والباحثون يتمسكون بجديتهم المطلقة، فيما يتعلق بالطرق والوسائل، ويبقون حذرين جداً في التقارير التي يصدرونها عن أبحاثهم، ومع ذلك فقد تقدمت أبحاثهم كثيراً لدرجة أنهم باتوا على أبواب الاتصال الروحي، والتبصر ومعرفة ما سيحدث في المستقبل، والقدرة على تحريك الأشياء عن بعد دون لمسها (المجلة العربية عدد 3).
ويقول خوسيه لويس الأستاذ السابق في كلية علم النفس في جامعة مدريد المركزية «لقد تمت البرهنة على أن الحدس يتأتى لأغلب الكائنات البشرية، لا بل إن بعض الحيوانات كالشمبازي، تتصرف كما دلت بعض التجارب الحسية تصرفاً حدسياً بحتاً» وهو يفهم الحدس على أنه الحصول على فكرة معينة، من أجل حلّ مشكلة مستعصية على الحل، وذلك بطريقة أكثر فعالية، ويعتقد أن العلم لم يستطع التقدم في دراسة الحدس، لأن الحدس لا يمكن تنظيمه وترتيبه، ولكن هناك طريق يوافق الحدس، إنه يتبع ويقتحم وينفح كالريح عندما تهب، كالإيحاء الذي يظهر عندما تشاء، أو عندما لا تشاء، وأما كابون الأستاذ الجامعي في كندا فهو مقتنع بأن الحدس والإبداع، هما الجزء الأكبر، والأقدم للذكاء البشري الذي يعود إليه الفضل في بقاء النوع البشري، على قيد الحياة.
إن هذا المعالج النفسي الذي يبحث على نحو علمي في الأسس النفسانية والفيزيائية العصبية للحدس بسلسلة من الاختبارات، يصر على أن الحدس والإبداع، على حد سواء، هما نتيجة لغرائزنا، التي ظهرت منذ مليونين ونصف المليون، فما هي إذن الفروق التي يمكن أن تكون بين الذكاء والحدس؟
لا يعرف العلم هذه الفروق مع أنه يعرف بوضوح وجلاء أنه لا بد من حد أدنى من الذكاء للتمتع بالتفكير الحدسي، لأنه معرفة غير واعية، وحلم بسيط، يمكن أن يتمتع به أي شخص كان. (مجلة الفيصل عدد 244).
وللدكتور عادل صادق وجهة نظر يقول فيها: «حتى الآن لا يوجد أساس علمي لهذه الظواهر، أي أنها لم تخضع للتجربة المعملية، ولكن هذا لا يمنع من التسليم بوجودها، حيث إن هناك خبرات فردية متعددة، من كل أنحاء العالم، تؤكد وجود مثل هذه الظواهر، لكنها تظل على المستوى الشخصي الفردي، ولا يمكن قياسها أو تعميمها، فالجموع الهائلة من البشر، لا تحظى بمثل هذه القدرات الخاصة التي يحظى بها الأفراد القلائل، ونقول: قلائل في حدود علمنا بهذه الحالات، ولكن ربما هناك الكثير منها، ولكن لم يصل لنا خبر عنها، شأنها في ذلك شأن بعض الظواهر النفسية المرضية، التي لا يمكننا أن نخضعها للبحث العلمي المعملي، فإذا جاءنا شخص يقول: إنه يسمع أصواتاً لا مصدر لهذه الأصوات، فما علينا إلا أن نصدقه، لأنه لا يوجد جهاز يكشف إذا كان حقيقة يسمع أصواتاً أم لا، بالمثل إذا جاءنا شخص آخر وقال: إنه قادر على قراءة أفكار الآخرين، ومن هنا فالتحقق من هذا بالأسلوب العلمي المقنن مستحيل جداً؟؟
ويؤكد الدكتور (هانز بيندز) كبير علماء الباراسيكولوجي الألمان، أن كل فرد يملك حاسة سادسة، وهو مستند إلى عشرات الدراسات التي أجراها، وأجريت تحت إشرافه في معهد الباراسيكولوجي بألمانيا يترأسه، وهو معهد مشهور في أوساط المهتمين بهذا الفرع من العلوم.
يقول هانز: (إن التجارب التي أجروها في المعهد مضمونة 100%) لأنها معدات إلكترونية دقيقة نقوم على ضبطها وتقنيتها، والأهم من ذلك أنها تستبعد من التجارب أي شائبة من شوائب التخمين، لقد ظلت هذه الموهبة النفسية، راكدة مكبوتة في العقل اللاواعي عند معظم الناس). (غرائب الحاسة السادسة).
ولقد جاءت تحريات الباحثين في ميدان هذه القدرات الفائقة، تثبت الحقائق التالية:
- إن الذين يعتقدون بوجود هذه القدرات لدى بعض الأشخاص يمكنهم الحصول على نتائج أفضل إذا قضوا فترة بالتدريب على ذلك مع هؤلاء الأشخاص.
- إن الأشخاص الذين تتجاذبهم عواطف صداقة ومحبة، هم أقدر من غيرهم على التخاطب والاتصال روحياً.
- إن الحوادث الخارقة والكوارث قابلة للتنبؤ بها أكثر من الحوادث العادية.
- إن الإدراك فوق الحسي، يكون أقوى لدى الأشخاص النائمين، أو المنومين مغناطيسياً، وإن معظم حالات التنبؤ بما سيحدث وقعت أثناء الأحلام.
إننا وبلا شك لسنا حتى الآن في وضع يسمح لنا بتفسير هذه الظواهر التي تعلو القدرات النفسية والحسية، ولكن على كل حال من الملاحظ أن النتائج بارزة للعيان، وأن بعضها أصبح بالإمكان استخدامه في الأمور العملية التطبيقية مثلاً:
- في التحقيقات البوليسية: ففي مدينة تورنتو هناك عدة محلات ومخازن تعتمد على الأشخاص القادرين على التبصر لكشف آثار اللصوص، لقد نجحت حتى الآن هذه الوسيلة في الآلاف من حوادث السرقة، حتى إن بعض المبصرين أمكنهم أن يشيروا قبل وقوع السرقة إلى الأشياء التي ينوي اللصوص سرقتها.
- في استكشاف ما في باطن الأرض، هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بهذه القدرات الميتافيزيكية قادرون على استخدام قدراتهم هذه في الكشف عن وجود المياه الجوفية، في بقعة ما في الأرض، أو الكشف عن المعادن، وبعض الآثار القديمة الثمينة، فمثلاً تمكن الوسيط المدعو آرون ابراهامس، مساعد الجيولوجي عالم الآثار المشهور البروفيسور كودمان، من أن يكشف أشياء دفنت منذ أعوام طويلة.
وهذه الأشياء تعتبر الآن من الأدلة القوية على وجود الإنسان في أمريكا منذ ذلك التاريخ.
- في التأثير في سير الأمراض، من الممكن أن تصبح هذه القدرات يوماً ما ذات تأثير قوي في سير الأمراض سيراً حسناً إلى أن يأذن الله بالبرء والشفاء، خاصة الأمراض التي تدخلها بعض الأعراض الوهمية، إن عدد الأطباء الذين يستخدمون هذه الأساليب في استعمال القدرات العقلية على شفاء بعض الأمراض آخذ في الازدياد. (المجلة العربية عدد 3).
ومن الطريف في الأمر أن هذه السمة موجودة في الحيوان والإنسان، كالسمك على سبيل المثال، والطيور كالحمام الذي اشتهر عنه معرفته بالمكان الذي ولد وعاش فيه، وكيف يعود إليه من أي مكان، حاول العلماء معرفة السر وراء هذه المقدرة، فاختاروا مجموعة من الحمام التي تربت في مكان معين، وأبعدوها داخل سيارات مغلقة، بحيث لا ترى شيئاً من الطريق إلى مسافات بعيدة، وهناك أطلقوها لتطير عائدة إلى نفس المكان، وعندما وضعوا بعض رقائق الرصاص حول رأس الحمامة لم تستطع أن تحدد اتجاه سيرها، وبالتالي لم تصل إلى هدفها.
وهذا يؤكد أن المخ يرسل إشعاعات تحدد على أساسها الاتجاه والمسافة، وأن الرصاص يمنع هذه الإشعاعات فيؤثر على البوصلة الداخلية التي تسير أو تطير بها، وهذا ممكن جداً في الإنسان كما هو ممكن في الحيوان، والدليل على ذلك أن الإنسان يمكنه تحديد اتجاهه بشكل صحيح، والفكرة هنا أن الإنسان يرسل عن طريق خلايا المخ إشعاعات، تقصد مكاناً معيناً، وعندما ترتد هذه الإشعاعات يحدد أين الاتجاه، وهذه هي فكرة الرادار الذي يرسل هو الآخر إشعاعات، وعندما ترتد إليه من جسم آخر يحدد مسافته ومكانه بالضبط، وهذه القدرة ظهرت واضحة في الخفاش، أو الوطواط الذي لا يسمع ولا يرى، رغم أنه يحدد بدقة أين هو وإلى أين يسير، فإن له بوصلة داخلية وإرادية، تعمل بكفاءة عالية. (المنهل - المجلد 46).
وبعد هذا كله، فإن العلماء والباحثين ما زالوا يبحثون في سر «الحاسة السادسة» أي أنهم في سباق بين العلم والبحث الطبيعي، وبين علوم ما وراء الطبيعة، وهم في هذا المجال العجيب الطريف على قدم وساق.