المتتبع للسياق العام للمشهد السياسي العربي منذ اندلاع الثورات العربية، ومروراً بالعمليات الانتخابية، وانتهاءً بفوز الإسلاميين في تلك الانتخابات بأكثر من بلد عربي، يلحظ واقعاً أشبه بالمأساة يعيشه الليبراليون العرب، بدلالة أن النخبة الليبرالية المثقفة
على مستوى المفكرين والكتاب البارزين مروا خلال ذلك السياق بثلاث مراحل رئيسة تعكس ذلك الواقع، فالبداية كانت مع مرحلة (الصدمة الانتخابية)، التي ضربت عقولهم عندما أفرزت الصناديق نتائجها الرسمية بفوز الإسلاميين، فنتج عن تلك الصدمة (التشكيك الحضاري)، وهي المرحلة التي مارس فيها الكتاب والمثقفون الليبراليون كل أدبياتهم السياسية وخلفياتهم الفكرية وحيلهم الكتابية في محاولة وخز عقل المتلقي العربي بإبرة التشكيك في قدرة الإسلاميين على إدارة الدولة بحكمة سياسية وديمقراطية عالية، والتعامل مع إغراءات السلطة والمال بإقرار العدالة والنزاهة، بل الطعن في نوايا الإسلاميين بأنهم إذا حكموا استبدوا، وقضوا على الديمقراطية ودولة القانون المنشودة التي جاءت على مهد الثورات العربية.
غير أن هذا التشكيك لم ينجح! ليس بسبب تعاطي الإسلاميين الذكي مع الإعلام الليبرالي، إنما لأن الشعوب العربية ذات الخلفية الدينية لم تكترث للضجيج الليبرالي واختارت الإسلاميين. هنا انتقل الليبراليون إلى المرحلة الثالثة - مرحلة الاضطراب الفكري - وتتمثل بالإدعاء أن (الليبرالية) هي التي انتصرت.. وجاءت على ظهور الخيول الإسلامية كما يقول مدير عام إحدى القنوات (العربية) الإخبارية، وإنْ انهزم الليبراليون كما يقول أحد المفكرين العرب العلمانيين. وكي يتضح (الاضطراب الفكري) الذي أشير إليه.. تعالوا نناقش ببساطة وإيجاز ما قاله الإعلامي مدير القناة والمفكر العربي باعتبارهما نموذجاً للعقلية الليبرالية العربية.
مشكلة ذلك الإعلامي العريق وأمثاله من المثقفين والكتاب الليبراليين أنهم ينطلقون من فكرة محورية تحكم كل مقالاتهم، بل وتصوراتهم عن الواقع المعاش والتجليات المشاهدة، وهي أن (الليبرالية تعني الحرية.. والعكس صحيح)، ما يعني أن كل واقع يشهد حرية ما، هو واقع ليبرالي، وكل فكرة أو ممارسة للحرية دليل نجاح الليبرالية، يقول: (انتصار الليبرالية يتمثل جلياً في الخطاب «الليبرالي» الذي تبناه الإخوان المسلمون والجماعة السلفية في مصر، وحرص حركة النهضة الإسلامية التونسية على تكرار تأكيدها بتبنيها مفاهيم الحقوق والحريات). لاحظ كيف ربط بين الليبرالية والحقوق والحريات رباطاً وثيقاً ووحيداً، وهذا خلل منهجي وعدم وعي في حقيقتي الليبرالية والحرية معاً، لأن الحرية أساساً (قيمة إنسانية) قبل ظهور الفكر الليبرالي وستظل كذلك، وهي موجودة في كل الأديان والثقافات، وهنا استحضر ما قاله الدكتور خالد الدخيل وهو مفكر ليبرالي في حواره على صفحة (تقاطع) بصحيفة (الجزيرة) عن الليبرالية السعودية، حيث يؤكد أن الحرية قيمة إنسانية قبل ظهور الليبرالية، ولكن ميزة الغرب أنه وضع هذه الحرية في نظرية سياسية واقتصادية هي الليبرالية، ما يعني أن الليبرالية بالأساس نظرية في ممارسة الحرية، ومنظومة فكرية ينبغي التعامل معها وفق ثلاثة اعتبارات (التعريف اللغوي)، و(المضمون الفكري)، و(البعد التاريخي)، بحيث لا يتم اختزالها في مشهد أو واقع معين، أو ربطها فقط في مفردة (الحرية) بهذا التبسيط الساذج.
في المقابل ألا يحق لنا أن نقول إن الإسلام هو الذي انتصر، ليس على اعتبار أن الإسلاميين يمثلون الإسلام، إنما لأن هذا الدين الخاتم والمنهج الشامل هو دين الحرية الحقيقية ونبذ العبودية إلا لله. أما ذلك المفكر العلماني فلا يختلف طرحه عن سابقه وإن كان أعمق بعض الشيء، لكنه يُفصّل في أمور جلية وكأن القارئ أعمى، عندما يزعم أن صانعي تلك الثورات كانوا أقرب في شعاراتهم وممارساتهم الاحتجاجية للاتجاه الليبرالي، وهذا يعيدنا إلى الفكرة الساذجة التي تقول إن الليبرالية هي المعبرة فقط عن الحرية!! يقول: (بيد أن هذه النتيجة يجب أن لا تقرأ بصفتها هزيمة للأفكار والقيم الليبرالية وانتصاراً للتقاليد والمعايير الماضوية البالية. فغني عن البيان أن الشعارات والمفاهيم الليبرالية هي التي حركت وأطرت الحركات الاحتجاجية الشبابية وليس المقولات التراثية أو العقدية الدينية). ولك أن تعجب من هذا التقرير المتناقض.. نجحت القيم الليبرالية وليس المقولات التراثية أو العقدية، مع ذلك تفوز الأحزاب الإسلامية التي تستمد كل أدبياتها وأفكارها من الثقافة الإسلامية وتلك المقولات، وانهزمت الأحزاب الليبرالية مع أنها تتبنى القيم والشعارات الليبرالية.. كيف تستوي الأمور في عقل هذا المفكر!!!! بل يقول: (ولم يستقطب التيار الإسلامي الجديد الشارع الثائر إلا بتأقلمه مع التصورات الليبرالية وتعهده بحمايتها حتى في جوانبها الشخصية الفردية)..!! سؤال عابر: ماذا عن الأحزاب اليسارية والتقدمية وغيرها! بل دعك من كل هذا.. كيف يفسر وكل ليبرالي ينحى هذا الاتجاه.. فوز السلفيين (سنة أول سياسة) في الانتخابات، ويتقدمون بفارق كبير عن الوفديين (حزب الوفد الليبرالي) العريق في السياسة؟؟. بعد كل هذا هل يمكن أن نقتنع بمقولة: انتصار الليبرالية وانهزام الليبراليين! أم أن الصحيح هو: انتصار الحرية وانهزام الليبراليين؟ والأصح من كل ذلك هو انتصار الإسلام دين الحرية الحقيقية.
kanaan999@hotmail.comتويتر @moh_alkanaan