لا أعتقد أن أحداً يحتاج إلى قدر من الذكاء والفطنة ليكتشف أن الفريق الدابي في تقريره كان يدافع بكل قوة عن نظام بشار وجلاوزته وشبيحته، ويتلمس لهم الأعذار، الأمر الذي يؤكّد أن وراء الأكمة ما وراءها.
المبادرة كانت تنص على أربعة بنود: الأول: سحب الجيش من المناطق الآهلة بالسكان والكف عن قمع الاحتجاجات السلمية. الثاني: إطلاق سراح المعتقلين. الثالث: السماح لوسائل الإعلام العالمية بالدخول ورصد الأحداث ونقلها مباشرة بحرية دون أية مضايقات. والرابع: إرسال مراقبين للتحقق عمّا يجري على الأرض. البنود الثلاثة الأولى جرى التغاضي عنها أو تهميشها وعدم الاكتراث بها، ودعك مما قاله الدابي في تقريره؛ فلم ينسحب الجيش من المدن والقرى، ولم يُفرج إلا عن أعداد قليلة من المعتقلين، ولم يسمح لوسائل الإعلام بالدخول ورصد الأحداث؛ وتم اختزال المبادرة (فقط) في إرسال مراقبين غير مدربين، ودون أية معدات، ودونما خطة، وجرى تضليلهم بتواطؤ على ما يبدو من رئيس اللجنة؛ والنتيجة أن المبادرة لم تفلح في تحقيق أهدافها؛ فالقتل مستمر، والفوضى مستمرة، وبشار يدفع البلد بعمد وإصرار نحو الحرب الأهلية، وكأن لسان حاله يقول: أنا ومن بعدي الطوفان؛ فأصبحت هذه المبادرة بمثابة (ورقة التوت) التي تحاول أن تستر عورة نظام لم يسلم من جرائمه حتى الأطفال والنساء والشيوخ؛ بل وحتى الحيوانات؛ لذلك كان قرار المملكة ودول الخليج بسحب المراقبين الخليجيين من اللجنة موفقاً بكل المعايير، فالانسحاب هو أقل ما يمكن عمله تجاه هذه اللجنة الفضيحة.
رئيس اللجنة السوداني الجنرال الدابي، منذ أن تم اختياره، لا يبدو أن كثيرين من السوريين وكذلك العرب يثقون في أمانته ونزاهته؛ فعمله مع نظام البشير كان كافياً لإثارة الكثير من علامات الاستفهام، وقد تعزَّزت هذه الشكوك عندما أبدى ميلاً واضحاً إلى النظام السوري، وتعاطفاً معه، وسفّهَ بأقوال كل مراقب انتقد النظام؛ مثل موقفه الغاضب من تصريحات المراقب الجزائري أنور مالك الذي قال: (إن الدماء في سوريا لم تتوقف، فيوميًا نقف على جثث في حال لا تخطر على عقل بشر)؛ فرد عليه بغضب الدابي واتهمه أنه لم يغادر الفندق، وكذلك موقفه من مراقب آخر ظهر في شريط فيديو يؤكّد رصده قناصين تابعين للنظام، فنفى الدابي تصريح المراقب. مواقف الدابي، فضلاً عن موافقة النظام السوري ليتولى رئاسة اللجنة، وارتباطه بالرئيس السوداني المطلوب دولياً لاتهامه بجرائم ضد الإنسانية، يجعل هذه اللجنة يكتنفها منذ البداية الكثير من الشكوك، وقد تعزَّزت هذه الشكوك عندما انبرى بشكل فاضح يدافع عن النظام السوري، ويذب عن ما اتخذه من إجراءات، وفي الوقت ذاته يساوي بشكل فاضح بين الجلاَّد والضحية، فأي إنصاف وحياد يُمكن أن ينتج من لجنة هذا رئيسها وهذا التقرير المعيب منتجاتها؟ التمديد الأخير للجنة لا قيمة له عملياً؛ وأملنا أن تنجح المبادرة الأوربية التي تسرّبت بنودها إلى الصحافة، ويُقال إنها ستقدم إلى مجلس الأمن منتصف الأسبوع القادم.
مجلس الأمن، إذا ما رُفِعَ إليه الملف، لديه من الآليات والتجربة والخبرة والقوة ولجان التحقق والتحقيق والمراقبين المحترفين ما سوف يُساعد على وقف حمام الدم وكبح جماح هذا النظام وكتائبه ومنعه من الاستمرار في جرائمه، ويضع هذا النظام ورئيسه أمام الشرعية الدولية؛ فإما مصير القذافي أو التنحي. كما أن إحالة الملف إلى مجلس الأمن سيُحرج كثيراً الممانعة الروسية الداعمة للنظام؛ ما يجعلهم يفكرون ملياً في مدى مصلحتهم من المضي قُدماً في مساندة هذا النظام المتهالك على مرأى من العالم.
لذلك فلا أرى في الأفق حلاً إلا التدويل، وترك المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن يتحمّل مسؤولياته؛ أما الذي يبحث عن حلول سياسية للأزمة، مثل المبادرة التي تطلب من بشار أن يتنحى ويفوّض نائبه كمرحلة انتقالية ريثما تجرى انتخابات يختار فيها السوريون من يحكمهم، فهو كمن يطلب من بشار الأسد وأهله وذويه وشبيحته الانتحار الجماعي.
إلى اللقاء.