تعيش البشرية اليوم في ظل قرية صغيرة حدودها تضيق يوماً بعد يوم بفضل جيل جديد من التكنولوجيات المعاصرة، كلها تبشر بعولمة وحضارة جديدة؛ واستطاعت هاته الثورة التكنولوجية صناعة الصورة ونقلها في رمشة عين إلى كل الأحياء والمدن والبلدان والقارات.
فقديماً كما يكتب الزميل خالد عزب، اكتشف الفراعنة أهمية الصورة في السيطرة، لذا نقشت جدران المعابد بنقوش مصورة تحكي عظمة الفرعون وهيبته وهيبة دولته وجذوره المقدسة، فكان يستخدم لهذا الغرض الهيروغليفية وهي علامات تصويرية كان يفهمها كل المصريين كأداة لإيصال هذه الرسالة؛ والعاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني بنى المسجد الكبير في الدار البيضاء، وكان يخاطب الحس الديني لدى أهل المغرب، واختار أن يكون لهذا المسجد معماراً يخاطب من خلاله الحس التاريخي لدى المواطن المغربي الذي يرى في فاس ومكناس والرباط مترادفات من هذا الفن هنا وهناك تذكره بأمجاد المغرب في العصور الغابرة، فهو هنا يستنطق بصورة غير مباشرة التاريخ في وجدان المواطن المغربي، أما كبر السجد فهو يجسد الروح العربية في الزهو والافتخار وفي الوقت نفسه يقيم الرهبة والخشوع.
فالإعلام -بتعبير الدكتور خالد عزب- هو أحد الوسائل التي ابتكرتها البشرية لإخضاع الجمهور لسلطة الأقلية، وهذه الأقلية إما أن تكون حاكمة بصورة ديكتاتورية أو ديموقراطية؛ فالإعلام أداة استخدمها القدماء إما بإثارة الرهبة أو من خلال بسط قناعة بأن هذه الأقلية تحقق الصالح العام.
تأتي أهمية تكوين الصورة الإعلامية من تحول الإنسان في السنوات الأخيرة إلى كائن اتصالي من دون أن يكون بالضرورة كائناً تواصلياً، فإذا كانت الصحيفة كمنتج إعلامي ليست ملكاً مشاعاً بحكم استمرار الأمية إلى الآن في بعض الدول، وإذا كان الإنترنت يسلب عقول مزيد من البشر يوماً بعد يوم موازاة مع ظهور التلفزيون التفاعلي، دون إغفال دور الهاتف الثابت والمحمول خاصة مع الجيل الثالث والرابع منه الذي ييسر وصول الأخبار لحظة وقوعها فضلاً عن كونه أداة تلق فردي وجماعي سواء في الشؤون الشخصية أو العامة أو شؤون العمل... فنحن اليوم أمام ثورة من تدفق المعلومات وإنشاء الصور، ولا نتحدث عن الصورة بمفهومها المبسط، وهو الصورة البصرية التي يبصرها الإنسان لشخص السياسي أو المؤسسة، لكن نتحدث عن الصورة بوصفها المركب الذهني الذي يتكون من الأفكار والقيم والمفاهيم فضلاً عن مدركات الإنسان من خلال الصورة الفوتوغرافية أو المرسومة أو حتى الكاريكاتير في الصحف أو التلفاز، مركب يشكل في النهاية القناعات الداخلية للجمهور المتلقي.
هذا الكلام يفهمنا دور الصورة وصناعة الصورة في الدلالة والتأثير على النفوس والقلوب، وهاته سنة من سنن الله منذ أن قامت السماوات والأرضين، إلا أن الذي تغير هو سرعة تأثير الصورة في الثواني التي وقعت على الملايين من الناس، وبالإمكان أن نسرد هنا ما تسببت فيه وسائل الإعلام الحديثة في الإطاحة بالعديد من الجمهوريات العربية، إذ لم يكن أذكى الخبراء التكنولوجيين وأكثرهم علماً ودراية، وأكبر أساتيذ الإعلام الاجتماعيين يتوقعون أن «التويتر» «والفيس بوك» سيصبحان قادتي الحراك الاجتماعي؛ ولا ننسى أن هاته المعجزة الإعلامية أحدثت ما يمكن أن نسميه «بالتشبيك الاجتماعي» في عالم عربي ما زالت فيه نسبة الأمية كبيرة جداً (ما يزيد عن مائة مليون أمي عربي)؛ وكانت هاته المواقع التواصلية الاجتماعية في مخيلة العديد من الناس مجرد عواصم للتلاقي ومدارج للتعارف وتكوين الصداقات، فخرج الحراك الاجتماعي العربي من رحم هاته التكنولوجيات الحديثة؛ وبحسب تقرير لمعهد التنبؤ الاقتصادي لعالم الفضاء المتوسطي، فإن أكثر من عشرين مليون عربي يستخدمون شبكة التواصل الاجتماعي «فيس بوك» وأن الإنترنت كانت بمثابة الوقود للربيع العربي في الجمهوريات العربية: فقصة الشاب محمد البوعزيزي لم يكن لها لتخرج إلى الوجود لولا سرعة نقل الصورة وتأثيرها على العام والخاص.
كانت وسائل الإعلام ولا تزال تلعب دوراً رئيساً في التعبير عن حركة السياسة والمصالح الاقتصادية، وصناعة الصورة السياسية الكفيلة بالتأثير على من يهمه الأمر؛ وانضافت المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام الجديد إلى البث التلفزي والفضائي الذي يسقط مثل المطر عبر السواتل التي تغدو سابحة في الفضاء المحيط بالكرة الأرضية، حاملاً في طياته القدرة على تمرير خيوط للإشارات التلفزية من آلاف القنوات التلفزيونية والإذاعية نحو الأرض؛ فالقمع البوليسي الذي يعاني منه الشعب السوري لم يكن ليتراءى للعالم بأسره، لولا طريقة إرسال مقاطع فيديو وصور حية توثق للأحداث الميدانية وتنقلها مباشرة إلى الفضائيات التي تنقلها في أخبارها في استغناء تام عن المراسلين الإخباريين ووكالات الأنباء الذين يتم منعهم من الوجود في عين المكان.
يؤكد الخبراء أن السياسة والحروب في عالم اليوم يمارسان أكثر من أي وقت مضى عن بعد؛ فكما أن الصواريخ يمكن إرسالها إلى مناطق تبعد عن مكان انطلاقها بملايين الكيلومترات بفضل برامج تعتمد على معلومات مسبقة، ومنظومة متكاملة من الأقمار الصناعية المحيطة بالكرة الأرضية، فإن الحملات الإعلامية تنظم بدورها وفقاً لبرامج دقيقة وذكية بإمكانها أن تحمل صوراً وهمية ولكنها تصيب الهدف دائماً... ولهذا السبب نفهم مثلاً ردات فعل الإستراتيجيين الديمقراطيين في أمريكا عندما هموا مؤخراً للدفاع عن رئيسهم بأنه ليس بجنرال القرن التاسع عشر الذي عليه أن يقف في مقدمة الجيوش ليصيح بصوت مرتفع حاملاً للعلم والسيف في مقابل وابل الانتقادات التي يتلقاها من خصومه الجمهوريين على أنه رجل يمارس الدبلوماسية وفنون السياسة الخارجية عن بعد.
وينقل عن غوتشالك في دراسته لبعض من الحروب التي خاضتها أمريكا أنواعاً متعددة من الصحافة المدجنة التي لا تعبأ بالحقيقة، وتعتنق قومية فظة، لا تجد حرجاً في ملامسة العنصرية... فالإدارة الأمريكية تكذب في بعض الأحيان، بينما وسائل الإعلام تكرر الكذب من دون تردد، ومحطات التلفزة تخصص لدعاة الحب وقتاً أكثر بمائة مرة مما توفره لمنتقديها؛ صحيح أن الإعلام ليس كالسياسة من حيث النشأة والأنظمة والقواعد الوظيفية المكونة لهما، ولكن بينهما تداخل وتشابك جعلت المتتبعين يصفون CNN في حرب الخليج الأولى بأنها العضو السادس عشر في مجلس الأمن الدولي، فيما أصبحت قناة الجزيرة خلال حرب الخليج تنعت بأكبر الخصوم الإستراتيجيين لمسؤولي التخطيط السياسي والعسكري في الولايات المتحدة الأمريكية؛ أما اليوم فيحق لنا أن نتحدث عن ثلاثية السياسة والإعلام والمجتمع؛ فوسائل الإعلام الحديثة جعلت المتلقي يتوصل انطلاقاً من فاعلين عاديين في المجتمع برسائل ومقاطع فيديو حقيقية تغنيه عن كثرة التفاصيل والسباحة في غيابات المحيط، ويستطيع هو أيضاً الرد عليها انطلاقاً من قناعاته وأفكاره وانتماءاته؛ وبإمكان هذا المتلقي إذا تجاوب تجاوباً تاماً أن ينطلق من التنظير والكتابة إلى التطبيق؛ فغزو وول ستريت والإطاحة بحكومة سيلفيو برلسكوني في إيطاليا والتعجيل بالانتخابات التشريعية في إسبانيا ما كان ليكتب لها النجاح لولا وسائل الإعلام الحديثة في مجتمعات هي في الأصل ديمقراطية، بمعنى أنه حتى الحكومات والدول الديمقراطية لم تعد قادرة على تمويه سفينة الإعلام لتنقاد إلى خيار المرشد السياسي وأوامر السياسة، ويكفي التذكير بأن سيلفيو برلسكوني يعد إمبراطورياً أوربياً في مجال الإعلام والتواصل لأنه يملك الكثير من القنوات التلفزية والشركات الإعلامية ولكن ذلك لم يغنه في شيء في مقابل القنوات ووسائل الاتصال الاجتماعية.