الصيادلة والأطباء وطواقمهم الفنية فقط هم الذين يعرفون الأخطار الكبيرة المتوقعة عند وصول جراثيم الفساد الإداري والمالي إلى الأدوية واللقاحات والأمصال. المسئولون الكبار يعتمدون في التعامل الوقائي مع هذه الأخطار على المتخصصين في مراكز المسئولية ولا يعلمون عن أسرارها الخلفية إلا من خلال ما قد يتسرب إلى العلن بالصدفة المحضة. تدور حاليا مناكفة بين وزارة الصحة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حول شيء ما بهذا الخصوص.
الموضوع بدأ هكذا: إحدى الشركات الخاصة الموردة للأدوية قدمت شكوى لوزارة الصحة لأنها (بجهودها الذاتية) وجدت لقاحا يباع ويستعمل في القطاع الخاص رغم أنه يحمل شعار الشراء الموحد للأدوية المؤمنة للقطاع الطبي العام (الحكومي) لدول الخليج. وجود هذا اللقاح في القطاع الطبي الخاص يعني أنه تسرب إليه من القطاع الحكومي، أي من مخزون الدولة بطريقة الاختلاس. الشركة التي اكتشفت طرف هذا الخيط تقدمت بشكوى إلى وزارة الصحة، وهذه بدورها طلبت مشاركة هيئة مكافحة الفساد في التحري والتحقيق، أو هكذا يقال.
لا دخل لي هنا بما تتقاذفه الجهتان المذكورتان من ادعاء الأسبقية في فضل الاكتشاف، لكنني أجزم بأن الشركة الخاصة التي تقدمت بالشكوى الأولى بناء على مجهوداتها الخاصة هي صاحبة الأسبقية والفضل في ذلك. ما يهمني هنا عدم لفلفة الموضوع وحجب أخطاره عن المواطن، أي التعامل معه بطريقة تبسيطية بيروقراطية لصالح المؤسسات الرسمية، دون توعية المواطن بما يعنيه الأمر لصحته وصحة أطفاله.
تقول الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إنها لم تعثر فقط على لقاح مسرب من مخزون القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص، بل وجدت كذلك أمصالا وأدوية وأجهزة طبية أيضا. لنتحدث عن اللقاحات والأمصال بالذات لخطورة ما قد يحدث لها من خلال التسريب والنقل العشوائي الخفي من مكان إلى مكان، ثم استعمالها دون التحقق من إمكانية تحللها وفسادها في الطريق. اللقاحات والأمصال تحتوي على مضادات مناعية بشرية أو حيوانية بروتينية، أو على كائنات مجهرية عضوية تم التعامل المتخصص معها لإضعافها أو إماتتها لكي يمكن استعمالها لتحفيز المناعة عند من تعطى له على شكل حقن أو قطرات أو محاليل وريدية. هذا التركيب البيولوجي للقاحات والأمصال يتطلب منذ مغادرتها مركز التصنيع وعبر النقل والتوزيع والتخزين وحتى لحظة الاستعمال المباشر على الإنسان أن تكون تحت ضمان كامل بعدم تعرضها لمؤثرات بيئية قد تفسد صلاحيتها أو تحولها إلى سموم فتاكة. من المؤثرات البيئية التي يجب الاحتياط لها لضمان سلامة اللقاحات والأمصال تذبذبات درجات الحرارة خارج المسموح به على العبوة وكذلك الضوء الساطع المباشر والتعرض للإشعاعات. في حالة كسر واحدة أو أكثر من هذه الاحترازات يمكن أن يحدث للمصل أو اللقاح شيء من الأمور التالية أو كلها:
1. فقدان الفعالية، وهذا يعني أن من تعطى له بقصد التحصين أو التطعيم لا يحصل على شيء سوى ألم الحقنة رغم إعطائه شهادة بالتطعيم. الطامة الكبرى هنا تكون في مجال التطعيمات الوقائية للأطفال أو للمصابين بأي نوع من أمراض نقص المناعة.
2. تحلل اللقاح أو المصل وتحوله إلى مادة بروتينية سامة قد تحدث أضرارا فادحة بالمحقون، ومنها على سبيل المثال الانفلات المناعي وغيبوبة الصدمة الدورية وشلل جوليان باريه.
3. تسرب أعداد من أطفال المدارس إلى الحياة العامة يعتقد أنهم حسب شهادات التطعيم قد حصلوا على حقوقهم في الرعاية الطبية الأساسية ضد الأمراض المعدية، بينما الحقيقة أنهم حقنوا بمواد غير فعالة.
هذه النقاط الثلاث تتعرض فقط لبعض الأولويات، وهناك احتمالات أخرى لا يهم إيرادها لتراجع أهميتها أمام ما تم ذكره. لكن السؤال هو: لماذا يكون المصل أو اللقاح المهرب من المخازن العامة إلى القطاع الخاص أكثر عرضة للتحلل والفساد؟
السبب هو أن من سوف ينهب الأمصال والطعوم سوف يقوم بذلك على الأرجح بطريقة إجرامية وبوسائل نقله الخاصة التي يصعب اكتشافها، ومن ذلك وضعها في أكياس قمامة أو كراتين ثم نقلها إلى الخارج إلى مراكز التسليم والاستلام. حين تصل إلى هناك تكون جميع ضمانات الفعالية والسلامة قد سقطت وأصبحت اللقاحات والأمصال سموما ناجزة. هذا الذي قلته لكم في هذه السطور مجرد نموذج واحد للأضرار الفادحة للفساد صعب الاكتشاف وغير المنظور حين يستطيع المرور والعبور في غفلة من أجهزة الرصد والمراقبة والمتابعة الوقائية على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم.