من محاسن الصدف كما يقول الحالمون أن يصادف نشر مقالي الأسبوعي لهذا اليوم ذكرى ميلاد تلك اللحظة الشاهقة لانطلاقة الشرارة الأولى من شعلة ميدان التحرير في يوم الخامس والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني العام الماضي 2011م.
لهذا لم تطاوعني يدي في الاستسلام لتعاليم الأطباء بالابتعاد عن غواية الكتابة قليلا, لريثما يشتد ريش ساعدي من جديد. فهم بمثل هذه النصيحة إنما يتوخون الإخلاص لمهنتهم بينما أنا بخيانة هذه النصيحة أتوخى الإخلاص لمهنتي وهوايتي وهويتي وهواي. فكيف لي وقد وهبني الله نعمة الحياة من جديد بعد أن عشت أشهرا من آلام وداع طويل أن أحرم نفسي أو حبري ومفاتيحي من الاحتفاء بعودة الروح التي مثلتها وقفة ميدان التحرير لكل مواطن عربي بما فيهم أنت وأنا وأهلنا وجيراننا وأصدقاؤنا من المحيط إلى الخليج على مدى أسبوعين مجللين بالقلق والألق معا. ومع أن مصر كلها بكتابها وشعرائها ونسائها ورجالها ومفكريها وأطفالها وشبابها تحتفي اليوم بما أصبح يعرف باسم ثورة 25 يناير أو ما يمكن تسميته للدقة والأمانة «بثورة الشعب للقرن الواحد والعشرين»، على وجاهة وجمالية التسميات الرديفة الأخرى التي خرجت من رحم الحدث مثل ثورة الفيسبوك وتويتر ومواقع التواصل الاجتماعي وثورة الشباب وثورة «للصبر حدود» وثورة المستقبل، فإن ما أريد التعبير عنه هنا ليس الكتابة عن ثورة 25 يناير بتعدد معانيها المعاشة والمعرفية في أي مدى زمني حاضر أو مستقبلي, بل إنني أريد فقط الوقوف مرة أخرى بميدان التحرير.
فوقفة ميدان التحرير بحد ذاتها هي في رأي صاحبة أدوار البطولة المطلقة في ولادة الأمل ليس للشعب المصري وحده بل للشعب العربي كله إن لم يكن للعالم أجمع. وهي الرمز والتجسيد لفعل توليد وتأجيج ذلك الحس الثوري النادر داخل النفس البشرية الذي بمثله استطاعت الشعوب أن تحرر نفسها من سلطة الأرباب الأسطوريين وسلطة اللاهوت والكنيسة وسلطة الأباطرة وسلطة الإقطاع وسلطة الاستعباد على مدى التاريخ الإنساني فيما مضى والذي لن يستطيع أي شعب بدونه أن يهزم أيًّا من مستجدات أشكال التسلط.
وهذا البعد تحديدا أي رمزية مشترك الحس الثوري عربيا وإنسانيا هو مايشغلني ولايزال يشحن عقلي وجوارحي بالكثير من الأفكار والأسئلة كلما عدت لاسترجاع وقفة ميدان التحرير من تموجاته الزمردية الطازجة في الذاكرة أو من اليوتيوب أو من الأفلام الوثائقية مثل فيلم «تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي» لتامر عزت وإيتن أمين وعمر سلامة, الذي شاهدته على هامش معرض الكتاب ببيروت الشهر الماضي.
وهناك على أرض الواقع حزمة من العوامل التي جعلت وتجعل من وقفة ميدان التحرير لمدة ثمانية عشر يوما بنهاراتها ولياليها وحرها وبردها، وبسلميتها الفذة وعفويتها الذكية موضوعا حيويا ليس فقط الاحتفاء بل للاستعادة والتأمل.
ومن هذه الحزمة أكتفي بقراءة عاملين من عوامل استحقاق وقفة ميدان التحرير عن جدارة للاستعادة في هذا اليوم المجيد ولمزيد من التفكر والتأمل باعتبارها من آيات الله في استخلاف الإنسان على عمارة الأرض بالعدل والقسطاط. العامل الأول يتعلق بفعل السبق الميداني الذي قاده الشعب المصري ومثلته وقفة ميدان التحرير داخل مصر. العامل الثاني يتعلق بفعل المشاركة بالمعايشة في وقفة ميدان التحرير عربيا وعالميا.
العامل الأول:
بالنسبة لهذا العامل نجد أن الشعب المصري كله بيمينه ويساره تقريبا وبكباره وأطفاله وبرجاله ونسائه وبمسلميه وقبطيه وبفقره وبعزة نفسه كان واقفا «ميدانيا» بلغة البحث العلمي في قلب ميدان التحرير فيما كان المشهد يصل «معرفيا» للمشاهدين حيًّا على الهواء كأرغفة حارة في عملية قُلبت فيها الموازين التقليدية للتغير ولنظرياته. ففي وقفة ميدان التحرير تقدم الفعل على القول وتقدمت الإرادة الشعبية على إمرة السلطة، حيث التطبيق سبق التنظير وحيث الجرأة الشعبية تفوقت على الجبن السياسي وحيث الشارع تقدم النخب بما فيهم النخب السياسية ونخب المثقفين في تخبط كل منهم أوتردده أو في تأخره عن فهم معنى وأبعاد تلك الوقفة. بل إن بعضا من تلك النخب قد وجد نفسه أو فوجئ بأنه إزاء وقفة ميدان التحرير قد فقد اللياقة التي تمكنه من المشي في ذلك المارثون الشبابي بالمعنى الثوري وليس بالمعنى العمري وحده. لذا فبعضهم كما حدث مع عدد من شرائح مثقفي اليسار تحديدا قد وجد نفسه يعيش «الحلم الثوري» إلا أن هذا الحلم لا يحمل رائحته هو ولا يأتي متطابقا مع تلك المشاريع الثورية التي طالما بُشِّر بها أو عاش لها فصار بعضهم يبحث عن نفسه داخل ميدان التحرير بأثر رجعي وإن كان بعضهم رأى أن لابد من التحالف مع المستقبل. والسبق الذي مثلته وقفة ميدان التحرير يبدو موحيا أيضا في موقف الإخوان المسلمين على سبيل المثال الأوضح الذي بدا عليه أنه كان موقفا مرتبكا ومتذبذبا بل وأكثر من ذلك متراجعا أمام تقدم الملايين من المصريين بأرواحها للمطالبة بالحرية والعدل وبنهاية الظلم والفساد والفقر. وهم وإن كانوا قد تداركوا موقفهم فيما بعد وأصبحوا الرابح الأكبر في السبق، فإن ذلك لن يغير حقيقة ولا تأثير أنهم خاضوا متأخرين سبقا ليس لهم فضل شجاعة المبادرة إليه، لثورة لاتزال بعيدة عن منتهاها.
العامل الثاني :
أما العامل الذي يتعلق بفعل المشاركة بالمعايشة في وقفة ميدان التحرير عربيا فهو أيضا مما لايزال ليقرأ قراءة متأنية قد تؤدي إلى المزيد من فهمه واستلهامه.
فبقد ما قد يكون صحيحا بأن الشعب المصري ربما لم يحلم في أحلى أحلامه بأن التظاهرة المقررة يوم 25 يناير سوف تكون نقطة تحول نحو ثورة تزيح رئيسا بقي الحاكم المطلق بأمره لثلاثين عاما وبقدر ما قد يكون صحيحا بأن ذلك الرئيس ربما لم يكن يرى في أبشع كوابيسه أن تأخره في اتخاذ خطوات جذرية نحو إصلاح النظام سيقود لسقوطه وسقوط نظامه، فإن الصحيح حقا هو أن الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يعتبر باستعارة للغة البحث العلمي, قد مر عن بكرة أبيه وأمه بتجربة وقفة ميدان التحرير عن طريق ما يسمى علميا «المشاركة بالمعايشة».
فالشعب العربي عاش الثمانية عشرة يوما يوما يوما، وساعة ساعة، ودقيقة دقيقة، بعقله ووجده ووجدانه وبسمعه وبصره وأحلامه داخل ميدان التحرير. عاش قلق الوقت ورعب الحوادث وتوجس النهار وهواجس الليل، عاش الأناشيد والزغاريد والدموع, عاش عزة المقاومة وشموخ الصمود وخضرة الأمل، كما عاش صلوات الجمعة والدعاء وجنازات الشهداء ونشوة النصر عندما يستجيب قدر الله لإرادة شعب لايريد أكثر من لقمة حلال وحب حلال وحرية حلال يعيش بهم بعدل وكرامة.
إن تجربة الشعب العربي لوقفة ميدان التحرير عن طريق المشاركة بالمعايشة من خلال المشاهدة، وبغض النظر عن حساباتها المعلوماتية والتقنية التي لا زالت لتقرأ, فإنها تعد تجربة سياسية غير مسبوقة في التاريخ العربي حيث دولا ومجتمعات لم تشم رائحة العمل السياسي من قبل ولم تعرف للعمل الثوري من أثر إلا في الكتب والشعر المصادر أتيح لها أن تشم هواء الحرية عبر ميدان التحرير.
ليس حدثا بسيطا بل عملا تاريخيا ليذكر أن تمكن وقفة ميدان التحرير العرب والعالم من أن يصحوا ويناموا ويأكلوا ويشربوا مع أبطال الميدان اليوميين من الشعب المصري بل يتقاسمون معهم على رؤوس الأشهاد بطولة البحث عن الحرية من البحر إلى البحر. وإن كان البحث لايزال مستمرا. بعضهم قال يستمر البحث إلى 2021 وبعضهم قال بعد نصف قرن إن لم يكن على مدار العمر، وأكثرية أجمعوا بأن الله لا يغير ما بقوم إلا أن يغيروا ما بأنفسهم، ليبدلهم بالعسر يسرا وبالظلم عدلا.