من عاش فترة السبعينات سمع على الأرجح بعالم النفس الاجتماعي «هيربرت ماركوزا» الذي ركز في الكثير من كتاباته على تعرية الاحتقانات الاجتماعية التي خلفتها الرأسمالية في المجتمعات الغربية، حيث أرجعها في مجملها إلى نجاح الرأسمالية، نتيجة لتطور وسائل الاتصال (ما يسمى اليوم بالإعلام التقليدي)، في خداع المجتمعات وتخديرها بتأجيج رغبة الاستهلاك لدى المواطن واستغلال غريزة الاستحواذ الدفينة لديه بدلا من تهذيبها، بحيث أصبح الفرد الرأسمالي يعيش ويعمل ويكد من أجل أن يستهلك، ويستهلك من أجل أن يفاخر ويستحوذ. ويفيد سلوك الفرد هنا الرأسمالية في اتجاهين؛ عندما يكد لينتج لها، وعندما يبادر بأن يستهلك منها.
والإنسان الغربي الحديث، حسب ماركوزا، أصبح إنسان تتحكم بمصيره و تسيطر عليه «العقلانية التقنية» التي أصبحت تدريجياً سجناً ذا بعد واحد له حتى أنه عرف الفرد الرأسمالي بأنه إنسان ذو «البعد واحد»، حيث اختفت، نتيجة إقصاء متعمد معظم الأبعاد الأخرى، كالأبعاد الإنسانية والروحية من نظرته للعالم. ويؤيد ماركوزا آخرون أيضاً في القول بأن المجتمعات الحديثة تتحكم فيها دائرة من المنافسة الاقتصادية الشرسة التي لا فكاك منها، بحيث أصبحت هذه المجتمعات حبيسة هذه المنافسة التي أسهمت في إقصاء الإنسانية وتدمير البيئة والأرض، وتناقص الموارد الطبيعية بشكل مخيف، واليوم، وبعد الانهيارات المتتالية لأسواق الائتمان، بدأنا نسمع نقداً لاذعاً لمفهوم الرأسمالية ذات العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة.
هذا النمط من التفكير النقدي الكلي الذي وجه بشكل عام للأنماط الرأسمالية للإنتاج انتشر أيضا بين مفكرين آخرين من العالم الثالث أيضاً، حيث برز ماركوزا أفريقي، اشتهر وعرف في ذلك الوقت وهو عالم التحليل النفسي الأفريقي «فرانز فانون»، الذي أرجع جميع الأمراض النفسية لمرضاه من العالم الثالث لسبب واحد فقط هو الاستعمار والاستغلال الرأسمالي لهم. وقد اشتهر فانون من خلال كتاب رائع له يمثل مساوئ الاستعمار في التعامل مع مستضعفي الأرض، و هو كتاب «المعذبون في الأرض».
لم تتغير الرأسمالية اليوم، بل إنها ازدادت شراسة بعد أن انتصرت على أنماط الإنتاج الأخرى التقليدية والاشتراكية بشكل غير مسبوق حتى أن الرأسمالية أصبحت تسعى لتوحيد العالم تحت مظلتها، وتطويعه لمصالحها، فأصبح العالم وحدة واحدة تحكمه الدول المتسلطة الغنية وتتبعها الدول العاملة المستهلكة المستضعفة، وبذلك تحولت الرأسمالية لقوة أكثر شراسة في إفقار الشعوب واستغلال ثرواتها من الإقطاع التقليدي. ويرى البعض أن ما يسمى اليوم بالعولمة ليس إلا اسم جميل لمظاهر تحكم القيم الرأسمالية الاستهلاكية بمصائر البشر بما في ذلك جميع المستضعفين في الأرض، وهم يستدلون بأنه وحتى اليوم لم تغير العولمة التجارية من وضع الشعوب الفقيرة المستضعفة شيئاً بالرغم من أن هذه الدول فتحت أسواقها، ونفذت جميع مطالب صندوق النقد الدولي، وطوعت قوانينها وتشريعاتها لجلب الاستثمارات الأجنبية الموعودة، فما حصل هو أن هذه الدول ازدادت فقراً وبطالة، مما يعزز الاعتقاد بأن العولمة ليست إلا نوعاً من السراب في صحراء الرأسمالية الذي يحسبه المستضعفون ماءً.
المجتمعات في العالم الثالث، أي ما يسمى بمجتمعات الجنوب، تحاول منذ زمن بعيد تكييف نفسها مع العالم الذي يسيطر عليه الشمال ببعده التقني العقلاني الواحد الذي يفتقد للأبعاد الإنسانية والروحية الأخرى التي تتمسك بها بعض دول الجنوب. والشمال ينظر للجنوب من زاويتين فقط؛ الأولى كونه مصدراً للمواد الأولية، والثاني كونه سوقاً استهلاكية. ومن أجل توسيع السوق الاستهلاكية للشركات متعددة الجنسية، فقد أخذت دول الشمال تنظر للجنوب مؤخراً على أنه مصدراً للأيدي العاملة الرخيصة. فعلى الفرد الجنوبي أن يكد مقابل أجور زهيدة، أي كما يقال «بأخو البلاش» ليستهلك البضائع الرخيصة التي ينتجها هو نفسه، بأثمان مضاعفة عندما يعاد تصديرها له. ورب العمل في الحالتين هو شركات شمالية معولمة.
وتنظر الدول الرأسمالية للبطالة على أنها ضرورة في حدود معينة لا تجعلها تؤثر على الاستقرار المجتمعي، فالبطالة هي بعبارة أخرى قوة عمل احتياطية تحد من قدرة النقابات العمالية على التفاوض، وهي فائض اقتصادي يضمن استقرار سعر العمالة ذاته. وهذه النظرة ذاتها تطبقها الدول الرأسمالية على دول الجنوب، فلابد أن تبقى هناك دول عالية البطالة مهيئة دائما لانتقال المصانع لها. والفوضى العارمة المحزنة التي تعم معظم الدول الأفريقية، ونسب البطالة المخيفة، تجعلها ثروة بشرية متاحة للاستغلال في حال ارتفاع كلفة الإنتاج في دول شرق آسيا التي أخذت اقتصادياتها بالنمو بشكل قد يحولها هي لدول رأسمالية كبرى كما في حالة الصين وكوريا.
و لكن حركة العولمة هذه اصطدمت بمجتمعات في آسيا والجنوب غير متطورة وغير عصرية تحكمها أنماط اجتماعية تقليدية: القبلية، والمذهبية، والطائفية، والفئوية، والعائلية، ويتفشى فيها الجهل والأمية. وعلى رأس هذه المجتمعات توجد سلط (جمع سلطة) مركزية لديها مصالح في علاقتها مع المستثمرين القادمين من الشمال، سواء للاستفادة من بيع المواد الأولية، أو الأيدي العاملة الرخيصة، ولذلك فهي تلجأ للقوة للسيطرة على هذه المجتمعات غير المتجانسة وتطوعها لتلائم وتوائم أنماط الإنتاج الشمالية التي تطورت عبر مئات السنين، وكان هذا هو حال دول آسيا قبل وبعيد الانفتاح الصيني في عام 1979م.
ولذلك حاولت السلط في المجتمعات الجنوبية السيطرة على الأنماط الاجتماعية السائدة تحت سلطة واحدة لا تسمح عادة بتعايش المصالح، غير أنها في الوقت نفسه تحاول أن تظهر بالمظهر العولمي الذي يحتم الانفتاح والشفافية وبعض المظاهر الليبرالية و الديمقراطية التي تطالب بها الدول الشمالية. ولذلك فالسلط التقليدية تعيش دائماً هاجس الخوف من أن تسمح لقوى جديدة على شكل طبقات رأسمالية جديدة، بالتطور حتى لا تشكل خطراً مستقبلياً عليها، بحيث تخرج القوى الجديدة من دائرة سيطرتها وتفقد بذلك مركزها، لاسيما وأن القوى الجديدة هي من طبقة الرأسماليين الجدد المرتبطين بالشمال والذين يستندون في قوتهم على المال الذي يجنونه من شراكتهم معه، ومن ارتباطهم به. وفي خضم ذلك أصبح هناك صراع جديد حول التحالف مع القوى التقليدية في المجتمع التي يهدد التطور الاجتماعي الطبيعي أيضا مصادر قوتها ونفوذها. ومن اجل ذلك وغيره لم تستطيع هذه الدول الانفكاك من الهاجس الأمني، سواء كانت هذه الدول أحزاب أو سلط تقليدية، وهذا هو ما شهدناه في صراعات ظهرت مؤخرا في دول ما يسمى بالربيع العربي، حيث أن أحزاب المعارضة التي تمولها طبقة الرأسماليين الجدد، والقوى الغربية سعت لكسر سيطرة السلطات المحلية المركزية لإفساح الطريق أمام نموذج جديد يلائم بصورة أكبر نمط علاقة إطراف الرأسمالية مع المركز، أي أن ما حصل هو إعادة تكييف لهذه الدول لتكون أكثر انسجاما وتناغما مع الشمال ومن نفهم التركيز على ضرورة إقرار الديمقراطية، وتعدد الأحزاب.
وكرد فعل من أنظمة الجنوب الأخرى، وكنوع من التحوط ضد التدخلات الخارجية، أصبح التطور في مجتمعات الجنوب يخضع لرقابة أمنية صارمة حيث يأخذ أمن السلطة المكان الأول في جميع الحسابات التنموية، فأصبحت التنمية تتم بفعل السلطة ذاتها أو بفعل المقربين منها، ولذلك فلا يستغرب أن المراكز الحساسة في الجنوب لا تحكمها الكفاءة بل الولاء والقرب من السلطة. وهنا يمكن القول بأن إنسان الجنوب، إنسان العالم الثالث، هو أيضاً إنسان ذو بعد واحد، وهذا البعد هو البعد الأمني، فأصبحت أولويات الإيديولوجيات المعلنة هي الحفاظ على الاستقلال الاقتصادي والسياسي، ومعظم الأمور يتم التعامل معها أو القبول بها فقط بعد أن يتأكد من كونها آمنة أمنياً. وربما يكون تحكم البعد الأمني هو الحائل الأول دون تطور هذه المجتمعات لمجتمعات مؤسسات.
ولذلك فهناك ضرورة لموازنة الهاجس الأمني مع حاجات التطور والتطوير ففشل التنمية الحقيقية في مجتمع ما، وانتشار البطالة والفقر هي أهم العوامل المعروفة اقتصاديا وتاريخيًا في زعزعة الأمن والاستقرار في الدول. وهناك من يرى بروز معارضة وطنية منضبطة كعامل أساسي لا لاستقرار المجتمعات، فهذه المعارضة إذا ما عملت بشكل متناغم، وليس بالضرورة متطابق مع السلطة، وإذا ابتعدت عن الارتباطات المصالحية مع الخارج، قد تكون مصلا مضادا يمنح الدولة مناعة إضافية ضد تكتلات قد تظهر بشكل فوضوي يمهد لاستغلالها من الخارج.
والله من وراء القصد
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif