من مفارقات المفكر السياسي ذائع الصيت فرانسيس فوكوياما الذي أعلن أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989، «نهاية التاريخ» لصالح الديمقراطية الليبرالية، أن يعود الآن بأطروحة جديدة ولكن مناقضة للسابقة، هي «مستقبل التاريخ»..
بالأولى حسم التاريخ للديمقراطية الليبرالية وبالأخرى شكك بإمكانية بقاء الليبرالية!
وكان فوكوياما، منذ نحو عشر سنوات، قد تخلى عن أجزاء أساسية مما جاء في نظريته «نهاية التاريخ»، إلا أنه هذه المرة لم يكتف بذلك بل طرح تحليلا مهماً ومثيراً نشرته المجلة الأمريكية السياسية فورين أفيرز (شؤون خارجية) في عددها الأخير هذا الشهر، أي مع دخول هذه المجلة الشهيرة عامها التسعين، وكأنها تزين هذه الذكرى بمقالة هذا المحلل المثير للجدل.
العنوان الكامل للورقة هو «مستقبل التاريخ: هل تستطيع الليبرالية الديمقراطية البقاء مع انكماش الطبقة الوسطى؟». وقد ظهرت تعليقات أمريكية كثيرة على الأطروحة الجديدة لفوكوياما خلال الأيام الأخيرة. من أكثر وأطرف ما تردد هو أن الرجل الذي أنهى التاريخ عاد ليقول لنا إن التاريخ رجع من جديد. فما هي خلاصة هذه الأطروحة؟
في البداية، يرى فوكوياما أنه في الوقت الذي توقعنا أن اليسار سيزدهر عالمياً بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، وكما بدا في حركة «احتلوا وول ستريت» فإن العكس صحيح كان الازدهار لليمين في ظل العولمة والتقدم التكنولوجي المفرط في سرعته.. موضحاً: «إنه كان من المتصور أن حركة «احتلوا وول ستريت» سوف تجذب الانتباه الشعبي، لكن أغلب النشاط بين الحركات الشعبوية مؤخرا كان لحزب الشاي اليميني.. ومشابه لذلك في أوربا، حيث اليسار ضعيف بينما الأحزاب الشعبوية اليمينية في حركة نشطة.» والخطورة تكمن في افتقاد التوازن الصحي بين اليمين واليسار في البنية السياسية للمجتمعات المتقدمة باعتبارهما جناحي كيان واحد.
ولننتبه هنا؛ فاليسار في الثقافة الأمريكية يضم أساساً الليبراليين الذين يطالبون بتدخل الحكومة لتوفير التعليم والصحة والضمان الاجتماعي ورفع الضريبة على الأغنياء، وليس فقط اليسار بالمفهوم العام الذي يضم أساساً الاشتراكيين، بينما اليمين يُقصد به أساسا الجمهوريين الذي يطالبون بخفض تدخل الحكومة إلى أدنى حد. ومن هنا يُصنف ليبراليو الحزب الديمقراطي الأمريكي كيساريين، وهم عادة يتراوحون بين 40 و50% من هذا الحزب، ومنهم إدارة أوباما التي تصنَّف كيسار الوسط.
وتحت عنوان فرعي «غياب اليسار»، يذكر فوكوياما: « أن أحد الميزات الأكثر إثارة للحيرة في العالم في أعقاب الأزمة المالية هو أنه حتى الآن، فإن الشعوبية أخذت أساسا شكل الجناح اليميني، وليس اليساري». ويشرح سبب ذلك بأنه عائد للإيمان بالمساواة في الفرص وليس المساواة في الدخل أو الأجر، وكذلك حقيقة أن القضايا الثقافية، مثل حقوق الإجهاض، ورخصة السلاح، تتقاطع مع النواحي الاقتصادية. كما يطرح خطورة أن تكون دول شمولية كالصين نموذجاً يحتذى، قائلاً: «العديد من الناس أصبحوا معجبين بالنظام الصيني ليس فقط لسجله الاقتصادي بل أيضا لسرعة اتخاذ قرارات كبيرة ومعقدة، مقارنة مع عجز السياسة المؤلمة التي ضربت كلا من الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات القليلة الماضية.»
إلا أن السبب الأعمق - حسب فوكوياما - لفشل اليسار من تكوين قاعدة شعبية عريضة هو في المسألة الفكرية.. يقول «لقد مرت عدة عقود ولم يتمكن أي مفكر من اليسار أن يطرح فكرة على نحو واضح، أولا: كتحليل متماسك لما يحدث لبنية المجتمعات المتقدمة وهي تعاني من التغيير الاقتصادي؛ وثانيا، وضع جدول أعمال واقعي يحمي الطبقة الوسطى. الاتجاهات الرئيسية في الفكر اليساري في الجيلين الماضيين كانت كارثية، سواء في الأطر المفاهيمية أو التعبئة.»
حسب فوكوياما، اليسار من ناحيته الماركسية مات منذ سنين عديدة، ومن ناحيته الأكاديمية فقد استبدل بما بعد الحداثة والتعددية الثقافية والنسوية، والنظرية النقدية، ومجموعة من الاتجاهات الفكرية الأخرى المجزأة التي هي ثقافية أكثر منها اقتصادية. فما بعد الحداثة تنكر إمكانية وجود أي رواية مسيطرة للتاريخ أو المجتمع، وهذا يعمل على تقويض مرجعيتها كصوت لغالبية المواطنين الذين يشعرون بالخيانة من جانب النخب. بينما التعددية الثقافية تشرعن رواية الضحية لكل مجموعة تقريباً. فمن المستحيل توليد حركة جماهيرية تقدمية على أساس مثل هذا التحالف المتنافر، فمعظم العمال وأبناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى هم ضحية لنظام محافظ ثقافياً وسيكون محرجاً أن يتم تحالفهم مع مثل هذه النخب (الما بعد حداثية).
ويختم فوكوياما موضحاً أن النخب في جميع المجتمعات تستخدم تفوقها كقنوات للنظام السياسي من أجل حماية مصالحها. لكن في غياب التعبئة الديمقراطية الموازية لتصحيح الوضع لن يحدث التصحيح طالما أن الطبقات الوسطى في العالم المتقدم لا تزال محكومة بسرديات الجيل الماضي: بأن مصالحهم ستكون أفضل بالأسواق الحرة والدول الأصغر. وينهي مقاله بعبارة بلاغية: «إن السرد البديل موجود هناك، في انتظار أن يولد.»
وعلى نقيض هذه الأطروحة يرى الكاتب اليساري ريتشارد جلدارد أن حماية الطبقة الوسطى من الانكماش ليست غائبة عن اليسار بل هي بالتحديد القضية الرئيسية لانتخابات عام 2012. فبالنسبة لأوباما، يكمن السؤال: هل الطبقة الوسطى الأميركية التي دعمته عام 2008 ستقوم بذلك هذه السنة أم ستوجه أصواتها للحزب الجمهوري؟ ويضع الكاتب أجندة واضحة لليسار في الضرائب والدَين والاستثمار والسياسة المالية والتعليم والصحة والبيئة والثقافة، مقابل غموض أجندة اليمين.
أما ديفيد اجناتيوس الكاتب في الواشنطن بوست فيرى أن فوكوياما قدم عرضا جيداً لما سيكون أكبر قضية لهذا العام في العالم وهي انكماش الطبقة الوسطى. ففي عام 1989، رأى فوكوياما أن السوق المعتمدة على التكنولوجيا العالمية وثرواتها الهائلة كانت حاسمة لـ «نهاية التاريخ» وتبني القيم الديمقراطية العالمية. أما الآن، فهو قلق من أن العولمة تعمل على تآكل الطبقة الوسطى التي هي، تاريخياً، الحصن المنيع للنظام السياسي الليبرالي. ويؤيد اجناتيوس تحذير فوكوياما من إعجاب الناس بنظام شمولي كالصين.
انكماش الطبقة الوسطى وأفول اليسار ليس موضوعاً جديداً لكن فوكوياما بطريقته المتفردة وبشهرته كأحد أهم المفكرين السياسيين في العالم، سيعطي الموضوع زخماً جديدا في نقاشه على مستوى العالم، وعلى مستوى البلدان العربية وما تمر به حالياً من ظروف استثنائية.. وهذا يحتاج لمقال آخر.
alhebib@yahoo.com