عندما تزورنا بالمدينة بغرض المراجعات الصحية، تجدها قلقة تنتظر أقرب فرصة للعودة إلى منزلها بالقرية. نحاول إقناعها بأنك في منزلك الذي هو منزل ابنك أو ابنتك فتشكرنا وتكرر حجتها الدائمة «ابوكم لوحده ما أقدر اتركه لحاله». نجيبها بأنه هو الآخر في رعاية أخ وأخوات لنا، فتصر على أنها وحدها يحب أن تكون بجانبه. وتؤكد بأن الأمر أكثر من مجرد عناية. ما أستغني عن حسه في البيت ولا هو يستغني عن حسي ونفسي بجانبه. أو هكذا تردد وكأنها تستحي بعد هذا العمر أن تعلن حبها له وعدم قدرتها على فراقه ولو لأيام قليلة. ما هو الحب إذا لم يكن هو هذا التلهف والشوق والحنان، كل تجاه الآخر.
يبذل الوالدان كل جهدهما على مدى العمر لتربية الأبناء والبنات. يفرحان لفرحهم ويتألمان لغضبهم وانكساراتهم. يكبر الأبناء، يستقلون بحياتهم وأولادهم، لكنهم يبقون فلذات الأكباد للآباء ويبقى الأب والأم ينازعان القلق والخوف واللوعة عليهم. بل ويزيد ذلك بزيادة الأحفاد الذين يقتطعون نصيبهم من حب الأجداد وقلقهم ولهفتهم عليهم.
يبقى شريك العمر شريكة العمر هو الأساس.. يغادر الأبناء تغادر البنات ويبقى رفيق العمر؛ الزوج الزوجة هو الونيس والحنون والعطوف الذي يتحمل الطرف الآخر ويفتقده في كل أحواله.
ليست الوالدة فقط تتلهف للعودة للوالد بل إن سؤاله هو الآخر اليومي عنها وحثها للعودة إلى بيتها دليل على لهفته هو الآخر إلى رفيقة دربه.. يقول: ما لنا سوى بعض يا ولدي.. لن تقصروا معنا، أنتم الأبناء، لكن لا نستطيع إلا أن نكون مع بعضنا، أنا وأمك، في عشنا الصغير. كيف أصبح ذلك العش صغيراً يا أبي وهو الأصل لتكوين درزن من أسر الأبناء والبنات، يتبعهم عشرات الأحفاد.
حفظكما الله يا أبي ويا أمي: نحن نقدر معنى بقائكما وراحتكما في عشكما الكبير بالحب والإيمان، وندعو الله أن لا تشعرا بالعجز وأن تكون أعراض الكبر والمرض وأوجاع السنين لطيفة بكما غير مؤلمة. نعذركما حين لا تريدان أن تكونا غرباء في بيوت أبنائكما وأحفادكما. نعذركما حين لا تطيقان العزلة في البيوت الأسمنتية بالمدينة بعيداً عن حياة البساطة وبيئة القرية العذرية..
أحياناً أسأل نفسي: هل نخن الأبناء أنانيون حتى في كبرنا؟
حين نلهى بحياتنا وبيوتنا وأعمالنا وفي نفس الوقت لا نستغني عن تقديركما وخدمتكما ودعائكما.. نريد أن نكسب من وراء دعائكما التوفيق والسعادة ولا نسأل ماذا قدمنا من جهد لكما يستحق كل ذلك...
أمي وأبي: أنتما نموذج نرفع به الرأس أنا وإخوتي وأخواتي، فهل سنصنع لأبنائنا نموذجاً مثلكما حينما نكبر؟!
قرائي الأعزاء دعواتكم لوالدي بالصحة والعافية والسعادة. أنتم بالتأكيد تملكون نماذج عظيمة لا تختلف كثيراً عنهما.
***
في إجازة قصيرة ستتوقف هذه الزاوية. ألقاكم بعدها على خير.
malkhazim@hotmail.com