مع اكتمال المرحلة الثالثة والأخيرة، من الانتخابات التشريعية المصرية.. كانت ترتسم على أرض الواقع صورة البرلمان المصري (الجديد).. برلمان ثورة الخامس والعشرين من يناير، أو برلمان الجمهورية المصرية الثانية.. على وجه الدقة، بهذا الكم الكبير من الأحزاب السياسية المتنافسة..
ذات المرجعيات الدينية والليبرالية واليسارية المختلفة، وقد تقدمهما (حزبان) على التفاوت بينهما.. عدداً وفكراً وبرنامجاً: (حزب) الحرية والعدالة الإخواني.. بمائتي وثلاثة وثلاثين مقعداً، و(حزب) النور السلفي.. بمائة وأربعة عشر مقعداً، وليس (جماعتا) أو (جمعيتا) الإخوان، والنور.. وهو أمر له دلالته، فقد ترك كل منهما عباءته الدينية.. وانخرطا في هذا السباق الانتخابي التنافسي بـ (برامجهما) السياسية الاجتماعية، ورؤاهما الاقتصادية التنموية.. وليس ببرامجهما الدعوية.. إذ إن مكان ذلك - ومع التقدير والإكبار له - هو المساجد والجوامع ومقار الندوات.. وليس قاعة البرلمان ومقاعده، بينما تناثر في المقابل شباب الثورة وصناعها الحقيقيين في أعداد متواضعة.. بين عدد من أحزاب الأقلية كـ «الكتلة المصرية» والمستقلين والعدل.. وهم يتلاومون بالتأكيد لا لأنهم لم يحصلوا على ذلك العدد الموازي من المقاعد لـ «ذاته»، ولكن لأن الثورة التي دعوا إليها وجيشوا من أجلها ودفعوا بدماء ثمانمائة وخمسين شهيداً وثلاثة آلاف وخمسمائة جريح.. ثمناً لها، حتى نجحت في إسقاط النظام السابق.. إلا أن مقودها لم يعد بين أيديهم لاستكمال بقية أهدافها في محاسبة المجرمين واللصوص.. ومن باعوا مكانة مصر ونهبوا ثرواتها وطاروا بها. وكأن الثوار.. بحماستهم وبراءتهم أو قلة خبرتهم قد استنفدوا «كل» جهودهم.. في إسقاط (النظام)، ولم يدخروا شيئاً لما بعدها.. لـ «مرحلة» البناء، التي تبدأ.. أول ما تبدأ بإقامة «السلطة التشريعية» عبر انتخابات حرة نزيهة!! وهو ما كان يعيه جيداً مخضرمو (الإخوان المسلمين).. وبالضرورة أصدقاؤهم الألداء من السلفيين الجدد، الذين ربما خاض بعضهم أو معظمهم هذه الانتخابات لأول مرة..!!
* * *
عندما أغلقت مراكز الاقتراع في محافظات مصر.. إلا عن آخر خمسة وعشرين مقعداً معلقاً (19 للفردي و14 للقوائم).. بدت خريطة أول مجلس للشعب بعد الثورة بمقاعده ذات المرجعية الإسلامية التي تزيد عن النصف من مجمل أعضاء المجلس الجديد.. مثيرة للجدل إجمالاً، ومخيفة عند أولئك القلقين الذين أخذوا يتساءلون في ريبة.. إلى أي (إسلام) سيقود مصر هذا المجلس..؟
أيقودها.. إلى إسلام سمح نضر منفتح على العصر وأدواته.. مقبل على العلوم والآداب والفنون.. كذلك الذي عرفته وعاشته طوال حياتها وتاريخها وأحقابها منذ أن جاءها عمرو بن العاص داعياً وفاتحاً لها، وأميراً لولايتها فلم يهدم هرماً، ولم يزل معبداً فرعونياً أو تمثالاً.. فظلت موجوداتها باقية حتى يومنا هذا! أم أن الدنيا تغيرت.. وجاء متشددون بـ «إسلام» كإسلام (طالبان) الذي عشت عيناه، فلم ير نور التوحيد عند ملايين المسلمين والمسلمات الأفغان إلا من عين إزالة تمثالي (بوذا)، وحرق كاسيتات الموسيقى والغناء، وحبس النساء في (جامات) كئيبة مصمطة إلا من ثقب أو ثقبين في الوجه للرؤيا.. كأنهن محكومات بالإعدام.. مع حرمانهن من الخروج من منازلهن حتى لطلب العلم والمعرفة، أو إسلام كإسلام (القاعدة) والدكتور أيمن الظواهري الذي لا يريد على أرض الجزيرة العربية من (الكافرين ديارا)!! أو حتى إسلام كإسلام الرئيس جعفر النميري.. عندما انتقل فجأة في آخر أيامه من (الاشتراكية) إلى (النهج الإسلامي) فقطَّع الرؤوس والأيدي وسجن من سجن وهو يحرق بيوت من قال إنهم من المشعوذين، وأنه قد يكون لـ»مصر».. نصيب من أي إسلام كهذا وإن أخذ لغة مصر وسمتها.. على يد هذا المجلس عندما يستقيم عوده ويبدأ دورة حياته، خاصة وأن هناك تسريبات مؤسفة جاءت على ألسنة بعضهم عن الرغبة في إزالة بعض تماثيل الشخصيات السياسية التاريخية المعروفة من شوارع وميادين القاهرة، وتغطية وجوه بعضها الآخر بـ «الشمع» حتى لا تظهر تفاصيلها، أو أن أحد الأحزاب الفائزة سيتقدم للمجلس بمشروع قانون لإنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد التعددية الدينية والديمقراطية والحرية.
قد يكون كل هذا.. جزءاً من الحروب النفسية.. وتشويه السمعة للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية الفائزة التي يلجأ إليها عادة الخاسرون في الانتخابات.. كنوع من التنفيس عن هزيمتهم أمام خصومهم وما سببته لهم من ضغوط وأوجاع، ولكنني توقفت مكروباً.. عند ما قاله الأستاذ ممدوح إسماعيل نائب رئيس حزب الأصالة - وهو أحد الأحزاب ذات المرجعية السلفية -: (إن حصول مرشحي الأحزاب الإسلامية على أغلبية في مجلس الشعب المنتخب.. هو «ابتلاء» وليس «انتصار»)!؟ وهو توصيف لا يُقبل من رجل سياسة.. دخل انتخابات وأعد حملته الانتخابية والدعائية وعقد الندوات والمؤتمرات وأقام الولائم في دائرته لكسب أصواتها.. فكيف يصح له أن يقول بعد كل هذا الذي فعله (إن فوزه.. كان ابتلاء)!!
إن هذا هو منطق الأتقياء البررة، الذين إذا أسند إليهم منصب وضاقت بهم سبل الاعتذار عنه وحملوا إليه أن يقولوا (إنه.. ابتلاء)..!! ولكنه ليس منطق محام وسياسي محترف، تعول عليه وعلى جهوده الأمة.. في مواجهة تركة الحزب الوطني الثقيلة بعبثها السياسي، وتخريبها الاقتصادي وبيعها لأغلى أصول مصر وموجوداتها بأبخس الأثمان.. ليغتني (الحزب) ورجالاته، وتبيت جموع مصر الغفيرة.. على الطوى!
على أن المطمئن، في مقابل ما قاله نائب رئيس حزب الأصالة (السلفي).. هو ما قاله - على سبيل المثال - رئيس حزب الوسط ذي المرجعية الإسلامية أيضاً (الأستاذ أبو العلا ماضي)، عندما أعلن بـ (أنه سيمثل صوت المعارضة في مواجهة التيار الإسلامي إذ جانبوا الصواب.. أو بجانبهم في القرار الصحيح)، بل وأضاف بـ (إن البرلمان لن يكون برلماناً إسلامياً خالصاً.. بل (خليطاً)، تحتل القوى الإسلامية مقاعد في الأغلبية والمعارضة.. في الوقت ذاته)!!
* * *
لكن الأهم في سياق اتهامات الخصوم وشائعاتهم أو التخويف من فزاعات الإسلام والتيار السلفي منه على وجه الخصوص في البرلمان المصري الجديد واحتمالاته.. هو ما قاله رئيس (حزب النور) السلفي، ورئيس مجلس إدارة صحيفته (النور الجديد): الدكتور عماد عبدالغفور، واستلفت انتباه العالم كله.. وهو يتساءل: (من قال إننا نصر على دولة دينية.. نحن لا نقبلها، ونصر على دولة عصرية، تراعي تعدد السلطات والفصل بينها، ونحرص على تطبيق العدالة بكل شفافية تحفظ حقوق كل أبناء الوطن).. وهو تصريح أقرب ما يكون إلى ما جاء في (وثيقة الأزهر) التي شارك في مناقشتها وإعدادها مع بقية الأطياف الدينية والسياسية المصرية، والتي ينص محورها الأول على (دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة.. يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة)، بل وتوقع الدكتور عماد (أن تشكل حكومة ائتلاف وطني بعد انتخابات مجلس الشعب أو بحد أقصى بعد انتخابات مجلس الشورى)، وعند الحديث عن أيهما أسبق، كتابة (الدستور) أم إجراء الانتخابات الرئاسية.. كان رده حاسماً (الدستور قبل الانتخابات الرئاسية.. وإلا فإننا سنستبدل ديكتاتوراً بديكتاتور آخر) وهو يعرض بالشيخ محمود عامر مستنكراً عليه ترشيح نفسه للرئاسة بعد أن خلع على الرئيس السابق لقب أمير المؤمنين، ونفى عن نفسه تهمة الترشيح أمامه.. حفاظاً على رأسه، وهو يحرم التظاهر عليه..!! وكان واقعياً سوياً وهو يدلي برأيه عن حرمة (التصوير) أو إباحته.. عندما قال (لست كحزب.. جهة أمر ونهي، ففيه خلاف فقهي كبير، لكننا لسنا مع الحظر (أو التحريم) بدليل أن مرشحتنا (!!) في قائمة الأسماء قد ظهرت صورتها عليها)، وقد أطفأ في حديثه الكثير من احتمالات القلق.. عندما قال ب، (إننا غير مستعدين للتحالف مع حزب (الحرية والعدالة) إلا في إطار وطني أوسع يضم الكتلة المصرية، والوفد، والوسط).. وهو نفس ما سبق وأن قاله حزب (الحرية والعدالة).. لأن كليهما وكما قالا (ضد تكريس الاصطفاف الديني)!! وهو حق في بلد تتعدد دياناته.
* * *
على أي حال - كان على أعضاء مجلس الشعب المصري الجديد، بل والنخب السياسية والحزبية من خارجه - أن تنشغل - ولا أحسب أن ذلك فاتها - بالدراسة والتفكير في تلك المعارك السياسية الكبرى المقبلة التي تنتظر برلمان مصر الثورة.. عند تشكيل لجنة المئة الأساسية لوضع الدستور إن كانت من داخل البرلمان أو من خارجه.. أو منهما معاً، وصياغة الدستور نفسه.. ومدى اعتماده على الوثائق التي تقدمت بها بعض النخب والتي كان من أبرزها وأهمها (وثيقة الأزهر) والتي كانت بحق رمانة الميزان وسط التباينات المختلفة، فـ «الانتخابات الرئاسية».. وتشكيل الحكومة، ولكن الإعلام بأدواته المختلفة.. والذي يستهويه الجدل، ويملأ ساعاته وصفحاته الخلاف بين الآراء وتباينها.. كان فيما أحسب هو الدافع في أن يسبق حديث المخاوف والفزَّاعات ما عداه.. دون أن يكون هو الأجدر أو الأحق.
فالحديث عن مصر ومستقبلها.. لا ينفصل عن تاريخها وحضاراتها الممتدة لآلاف السنين: من فرعونيتها، إلى رومانيتها وقبطيتها، إلى عروبتها وإسلامها.. التي جعلت منها رائدة ومعلمة ملهمة، فقد تولى رئاسة وزاراتها.. أقباط وليبراليون ومسلمون وسطيون، فلم تتغير أو تتبدل.. وبقيت مصر رائدة في كل الأزمان وعلى كل الدروب.
وبعد ...
والحديث يجر بعضه بعضاً.. كما يقولون، فإنني لا أذكر.. وقد قرأت كثيراً عن الشيخ حسن البنا وحياته في الإسماعيلية.. فـ «القاهرة»، بأنه فكر يوماً - وهو في عز دعوته - بأن يطلب من مريديه.. أو تلامذته أن يقتحموا (شارع عماد الدين) ويحطموا دوره وملاهيه.. (احتساباً)، بل بقي الشارع.. وإلى يومنا هذا، بل وكتب عنه أجمل ما كتب عن شوارع القاهرة الفارهة الفريدة في تلك الأزمان، ولا أحسب أن ما كان يفعله (الإمام).. يخرج عنه (المأموم)..!!
dar.almarsaa@hotmail.com