لم يعد ممكناً الركون إلى مورد واحد مهما تضخمت إيراداته لبناء اقتصاد قوي، ولهذا فقد عمدت وعملت الكثير من الدول إلى التنويع لاقتصادياتها، ونجحت من خلال ذلك التنوع وابتكار أنماط جديدة من النشاط الاقتصادي إلى بناء اقتصاد قوي على الرغم من قلة مواردها الطبيعية إن لم تكن معدومة أصلاً. ولنا في نموذج اليابان الدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة ومثقلة اقتصادياً، وهي الدولة التي تفتقر إلى موارد طبيعية، فاتجهت إلى اقتصاد المعرفة واستثمرت مواردها البشرية، حيث عوض الإنسان الياباني فقر الطبيعة بالعقل البشري والإرادة والعمل، فطوَّر الصناعة الإلكترونية ليجني أرباحاً جعلت الاقتصاد الياباني واحداً من أقوى الاقتصاديات العالمية. وهكذا فعلت كوريا وماليزيا وسنغافورة، دول استثمرت في إنسانها واتجهت لاقتصاد المعرفة، لتصبح اقتصادياتها من أقوى الاقتصاديات في العالم، وهو ما تسير عليه الصين والهند معاً. إذ تحتل الصين الآن المركز الثاني كأقوى اقتصاد دولي، فإنه لن يمر وقت طويل حتى تحتل الهند مكانتها كواحدة من أقوى الاقتصاديات.
قائمة طويلة من الدول عرفت طريق النمو والتطور لتحسن من اقتصادياتها وأوضاعها لتكون نموذجاً جديداً من الدول الأسرع نمواً، والقائمة تضم إضافة إلى ما ذكرنا دولاً عديدة منها البرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا والأرجنتين. جميع هذه الدول استثمرت في اقتصاد المعرفة وطورت قدرات مواطنيها عبر تمويل الأبحاث العلمية والصرف عليها لتصبح في فترة وجيزة دولاً منتجة، وتتحرر من دائرة الدولة المستهلكة التي تعتمد على ما ينتجه الآخرون.
ونحن هنا في المملكة العربية السعودية لا نزال نعتمد في اقتصادنا على مورد واحد هو إنتاج وتسويق النفط، ورغم الاتجاه في الأعوام الماضية القريبة إلى تنويع مصادر الدخل وارتفاع نسبة مساهمات القطاعات غير النفطية، إلا أن النفط لا يزال هو العامل الرئيس والمحرك للاقتصاد السعودي، وهو وضع لا يمكن أن يستمر طويلاً، لأن النفط لابد أن ينضب يوماً ما، إضافة إلى التوجه العالمي لتقليل الاعتماد عليه كمصدر وحيد للطاقة. وهنا تبرز الحاجة الملحة لتعزيز الاقتصاد السعودي بموارد أخرى مستديمة، يأتي في مقدمتها الأخذ وتطوير والاهتمام باقتصاد المعرفة، من خلال إنشاء العديد من المؤسسات والواحات ومدن المعرفة، وتطوير البنية التحتية لتقنية المعلومات، وزيادة مخصصات البحث العلمي، وتطوير نظام التعليم بهدف التحول إلى عالم معرفي يعتمد على التقنية المتقدمة الذي يتيح طرح الكثير من المشروعات الصناعية الواعدة التي تعتمد على التقنيات الحديثة والمتطورة وتركز على إعطاء الأولوية للتنمية البشرية لتحقيق زيادة في النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، الأمر الذي يعود بالنفع العام على أبناء المجتمع السعودي.
هذا التحول وتفعيل الاستثمار في اقتصاد المعرفة لا يتم بالتمنيات والتنظير فقط، بل يحتاج إلى عمل وبذل وصرف لنقل التمنيات والدراسات النظرية إلى واقع، من خلال الصرف والبذل على الأبحاث العلمية والدراسات التطبيقية لترجمة الأفكار الرائدة إلى صناعات مثمرة. ومع أن المملكة قد خصصت ثمانية مليارات ريال لتنفيذ هذا التوجه، إلا أننا مطالبون بالاهتمام أكثر وترجمة الأفكار الخلاقة والمبادرات التي أقدمت عليها بعض الجامعات السعودية حتى يصبح لدينا اقتصاد معرفي مواز للاقتصاد القائم ويعززه، بحيث لا يصبح رافداً فقط بل أساسي ومؤثر، كونه اقتصاداً مستديماً ولا يرتبط بموارد طبيعية في طريقها للنفاد، بل اقتصاد يتطور وينمو كلما اتسعت دائرة الاهتمام به ووسعت مجالات استثماراته وتفعيله.