|
ليس بعيداً عن تناول وفكر الأفراد العاديين فضلاً عن المختصين مدى أهمية الأمن الغذائي، والذي يمثل قدرة المجتمع على تأمين احتياجاته من السلع الغذائية الأساسية، إما بإنتاجها محلياً أو بإمكانية الحصول عليها دوليّاً وفق أفضل المواصفات وأقل الأسعار، ويقرُّ الجميع بأنه كلما كان الاعتماد على الذات أكبر سلم المجمع من ممارسات وضغوط سياسية تمتد بلا شك إلى الاحتياجات الغذائية.
في ظل هذا المفهوم ولمَّا كان الأمن الغذائي على هذا القدر من الأهمية، لذا وجب أن يشكل إصلاح النظام الزراعي لدينا أولوية قصوى، بما يتيح لنا تنمية زراعية مستدامة لا تتعارض وشح الموارد المائية في المملكة.
وجميعنا يذكر عندما صدر قرار مجلس الوزراء بتاريخ 9ـ11ـ1428هـ والقاضي بالتوقف عن شراء القمح المنتج محلياً تدريجياً في مدة أقصاها ثماني سنوات، أي بمعدل سنوي (12.5 في المائة)، كان هدف ذلك هو ترشيد استهلاك المياه وتنظيم استخدامها في المجالات الزراعية نظراً لمحدودية وشح مواردنا المائية.. وتضمن القرار خفض شراء القمح المنتج محلياً بشكل تدريجي، لإتاحة الفرصة لمزارعي القمح للتحول نحو زراعة محاصيل ذات استهلاك مائي منخفض والاستفادة من الميزات النسبية في الإنتاج الزراعي لكل منطقة من مناطق المملكة وتعظيم الاستفادة من استخدام المياه، للوصول إلى تنمية زراعية مستدامة في بلادنا.
ولكن النظر إلى الواقع يثبت لنا عكس ذلك، إذ على الرغم مما تضمنه القرار من فقرات مهمة فيما يتعلق بالبدائل إلا أن تلك القرارات لم يتم تطبيق أيّ منها كتعويض المزارعين أو دعم المتضررين أو تشجيع زراعات بديلة! ولم يُطبق سوى إيقاف شراء القمح.
يجب أن يُعلم أن الزراعة ليست قمحاً فقط، وأننا بحاجة إلى أن تكون هناك منظومة متكاملة تحقق الأهداف المرجوة خاصة التنمية الاجتماعية الشاملة ضمن حجم الموارد المتجددة من الماء فقط، علماً أنه تم تشكيل لجنة وزارية لدراسة قرار المنع مكونة من وزارة الداخلية، وزارة المالية، وزارة الزراعة، وزارة المياه والكهرباء، ووزارة الاقتصاد والتخطيط، ونتج عن ذلك اللجنة تكليف جامعة الملك فهد للبترول والمعادن من قبل وزارة الداخلية بتنفيذ دراسة وضع زراعة القمح محلياً للمواءمة بين الأمن الغذائي والمائي في ظل شح الموارد المائية، وأمَّلت وزارة الزراعة بأن تخرج الدراسة بنتائج وتوصيات متوازنة مبنية على حقائق وبيانات آخذة في الحسبان أهمية القطاع الزراعي ومساهماته المختلفة في الاقتصاد السعودي وأهمية استمرار التنمية الزراعية المستدامة والتي تستهدف المحافظة على الموارد الطبيعية وفي مقدمتها المياه، كما سبق أن وقعت وزارة الزراعة في صفر 1421 مع معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك سعود اتفاقية هدفت إلى إعداد خطة مستقبلية للزراعة في المملكة، وذكر وقتها وكيل المعهد أن خبراء المعهد سيقومون بإعداد هذه الدراسة الهامة التي تشمل أوجه السياسات والدراسات والنشاطات التي ستقود القطاع الزراعي إلى المستقبل بخطى واثقة ومدروسة، ورغماً عن هذه السنوات وهذه الجهود لم نلمس واقعياً أثراً لذلك.
إن التنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي حاجات الحاضر من دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتها، وتعزيزها يتطلب التأثير على أساليب الإنتاج واستخدام الأراضي في المدى القصير وعلى التنمية التكنولوجية والموارد الطبيعية ونظم القيم على الأمد الطويل.
كما أن إصلاح القطاع الزراعي في منطقة الخليج أصبح بديلاً لا مفر منه، إذ يستخدم أكثر من 80 في المائة من مياه المنطقة في قطاع الزراعة. ويدخل في إصلاح هذه المنظومة ضرورة التوعية بأهمية المياه وأثرها في حياتنا، فهل يُعقل أن يستهلك الفرد في دول الخليج 850 متراً مكعباً من المياه سنوياً، مقارنةً بالمعدل العالمي البالغ نحو 500 متر مكعب، وفي بريطانيا يعادل استهلاك الفرد 165 متراً مكعباً للفرد؟!
وبحسب بحث قام به كاتب هذه السطور بسؤال 1.656 سعودياً وسعودية ما بين مختصين وشخصيات عامة عن رأيهم في المبادرات السبعة التي أطلقها صندوق التنمية الزراعية وهي: إنشاء مركز معلومات الزراعية، ترشيد استخدام المياه في الري باستثناء القمح والأعلاف الخضراء، تأسيس كيان أو أكثر لمناولة وتسويق الخضار والفاكهة، التأمين التعاوني للقطاع الحيواني بدءاً بقطاع الدواجن، إنشاء هيئات لمعالجة تسويق الخضار والفواكه والتمور، إنشاء شركة إكثار الماشية والأغنام، إنشاء كيان لتسويق الأسماك والروبيان، وتم طرح السؤال عن مدى موافقة كل منهم عن التالي في مجال التنمية المستدامة بقطاع الزراعة: إنشاء مركز موثوق للبحوث، إنشاء مركز معلومات وطني للزراعة، ترشيد استخدام المياه في الري، إنشاء هيئات لمعالجة تسويق الخضار والفواكه والتمور، إنشاء التأمين التعاوني للحيوانات، إنشاء التأمين التعاوني للمحاصيل، إنشاء كيان لتسويق الأسماك والروبيان.. فكانت النتيجة بين موافق وموافق بشدة بنسب على التوالي: 86% و85% و90% و84%و 58% و64% و72% على تلك المبادرات.
إذاً، من خلال الاستبيان السابق يتبين وجود رغبة مجتمعية في إنشاء منظومة زراعية شاملة وليست زراعة قمح فقط، وهذه المنظومة ستساعد في حل مشكلة الهجرة الداخلية من الموطنين في المملكة من المناطق الريفية إلى الحضرية، بحثاً عن مستوى معيشة أفضل والتي أسهمت في زيادة الفقر بالمملكة من جراء المنافسة وعدم امتلاكهم مهارات أو ضعف مستوى التعلمي لديهم، بما يعني عدم تمكنهم من إيجاد فرص عمل أفضل في المدن الكبرى، فيما المبادرات الحكومية المتعلقة بالقطاع الزراعي تهدف إلى ضمان دخل دائم للمزارعين والحفاظ على المنتجات الغذائية بأسعار معقولة.
إيجازاً فإن كل ما سبق يحتم وجود إستراتيجية زراعية متكاملة، خصوصاً مع مخاوف عدة بشأن قضايا ندرة المياه وارتفاع أسعار المواد الغذائية والنمو السكاني وارتفاع معدلات البطالة وتدهور البيئة وانخفاض نسبة الأراضي الصالحة للزراعة، إضافة إلى تأثير ارتفاع نسبة التحضر والتنمية الاقتصادية والمخاوف الأمنية.
وتظل الزراعة هي الأولى والأجدر بحل عدد من القضايا المهمة التي يجب مراعاتها، وعلى رأسها التنمية المستدامة وتعزيز الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي، والحد من الهجرة ومن البطالة، وأخيراً التخفيف من حدة الفقر.