كان الحديث في المقالين السابقين منصباً على فلسفة ثقافة الشك لدى البشر، وأثر الخلفيات الدينية والخصائص الإثنية في تطور بعض عناصرها. وكان تحليل الثقافة العربية (المعتمدة على الإسلام والقبلية) لم ينته؛ إذ كانت بقيت مظاهر تلك السمات التي نتعرف إليها أدناه: فقد بدت على شكل اقتصاد عائلي أو جهوي تديره أياد دينية أو قبلية (بمفهومها الواسع)، وفي إدارة أوليغارشية للأمور؛ تعتمد على رؤية أصل الأشياء، وليست متغيراتها. وهذا يفسر في جانب الاهتمام بالطقس الشكلي المتمثل في مد اليد لإتمام الصفقة، وتحديد «الكلمة» أساساً للحصول على الثقة أكثر من الورق والشهود، ولا بد أن تكون «كلمة رجل» أيضاً. كما يفسر نشوء الأمثال التي تنحو هذا المنحى، من مثل: «احفظ قردك، لا يجيك أقرد منه!» (نتيجة للخوف من المجهول، وهي بالطبع مأخوذة من النظرة الدينية العميقة في المخيلة العربية). أما المكون الأكثر سلبية، فهو ذلك المتعلق بالمرأة؛ إذ تتدنى نسبة الثقة فيها كثيراً. فهل الأسباب كلها جنسية، أو تنبع من الجنس، وما يتلوه من اختلاط الأنساب (الموضوع الجوهري في القبيلة - أحد مكوني الثقافة العربية)؟
بقيت - في هذا الجزء - علاقة موضوع الشك بالاقتصاد وتطوراته. ومثلما هي الحروب تحركها الدوافع الاقتصادية للتوسع وتطوير آلة الحرب، فإن لهذا الموضوع علاقة بالاقتصاد من ناحيتين: الأولى تتعلق بدور عجلة الاقتصاد في بث تلك الروح؛ ففيما يخص هذه الناحية، تقوم شركات تصنيع أنظمة الأمان وتوظيف الحراس الشخصيين، وغير ذلك من فروع هذه الصناعة، مثلما هي الحال أيضاً الأنظمة السياسية الشمولية، بالدفع نحو شعور الناس بعدم الأمان، ليكونوا رهائن لمنتجاتهم وأنظمتهم. والناحية الثانية لها ارتباط بنسبة ارتفاع الدخل القومي في أي مجتمع؛ فكيف هي العلاقة بين الغنى ومتلازمة الشك؟ أي هل وجود الثقة بين أفراد المجتمع يخلق الغنى، أم إن الغنى هو الذي يخلق الثقة؟ من خلال استعراض القوائم التي قام بها المعهد الأوربي للدراسات الإستراتيجية، يتضح أن العلاقة وثيقة، وربما تكون متبادلة. والاستثناء الوحيد في تلك القائمة هي الولايات المتحدة الأمريكية التي يرتفع متوسط الدخل السنوي فيها (26990 دولار أمريكي) إلى ما يقارب النرويج وسويسرا، لكن بورصة الثقة لا تتجاوز 48,7 % (خلافاً للنرويج وسويسرا اللتين تصل فيهما إلى 88,3% و74,2 % على التوالي). وربما يعطينا المؤشر لهذا الخلل ما يحصل الآن في بعض المدن الأمريكية الكبيرة من كون الثقة في المؤسسات العامة والخاصة أصبحت مفقودة؛ وما تلى تلك الخيبة من محاولات لاحتلال وول ستريت في نيويورك. وذلك دليل على أن الاعتقاد بعدالة النموذج الاجتماعي قد بدأ في التضاؤل بأرض الحلم «يوماً ما».
وفي الواقع لم يكن يوجد منذ أمد بعيد إدراك لهذه الصفة البشرية القوية؛ لكن بعد تطور العلوم الجينية وأبحاث الدماغ والأحياء الجزيئية توصل العلماء إلى سر هذا الشعور، وخاصة فيما يخص مرضى متلازمة ويليام - بويرن يتضح كيف إن تطور هذه المقدرة عميق في النفس البشرية. بل إن أندرياس ماير- لندنبرج الباحث والأخصائي النفسي في معهد مانهايم المركزي للصحة النفسية يزعم أن عنصر الثقة فطرية في الإنسان، وأنه في حالات أطفال متلازمة ويليام - بويرن (WBS) ينقصهم تقريباً 27 من الجينات المورثة. وقد اكتشف العلماء أيضاً أن مفتاح هذا الشعور يكمن في هرمون أوكسيتوسين، وهو الهرمون نفسه الذي يفرز أثناء المعاشرة الجنسية. ألذلك قيل بأنها العلاقة الحميمة التي فيها كامل الثقة؟ لا أظن دائماً؛ لكنه هرمون - فيما يبدو - يؤثر في الأصحاء وفي المجتمعات وفي الاقتصاد المحلي والكوني!
الرياض